حين يتحوّل الرمز إلى إلزام
بدخول السائحٌ إلى عمّان للمرة الأولى، عابرًا من بوابة الدوار السابع، يخال له أنّه يخطو إلى مدينةٍ مشبعة بالمعنى، فالأعلام تنتصب على سواريها في صفوفٍ متتابعة، كأنّها تستقبله بمهرجانٍ صامت من الألوان، غير أنّ عينًا فاحصة لا تلبث أن تلتقط الفارق؛ فبعض الأعلام يلمع ببهاءٍ جديد، فيما أخرى بهتت الوانها الشمس، أنهكتها الرياح، وجرحتها الأمطار، عندها يتوقف الزائر متسائلًا، أهو القماش والطلاء وحدهما، أم هو غياب الضمير الذي كان ينبغي أن يصون كرامة الرمز الوطني ويحافظ على قيمته؟
من القماش إلى الضمير
السؤال الأعمق يتجاوز صنعة الحديد ولون القماش، ليطال جوهر التجربة الإنسانية، هل هذه الأعلام انعكاسٌ لعاطفة جماعية صادقة؟ هل اجتمع الأردنيون، عن طيب خاطر، ليعلنوا انتماءهم برفع الساريات أمام البيوت والمتاجر والمصانع؟ أم أنّ الحقيقة أكثر تعقيدًا، وأنّها أوامر وتشريعات تجعل العلم شرطًا إداريًا لا سبيل للمواطن لإستكمال معاملاته من دون الامتثال لها؟
بين الرمز والإلزام
هنا لا يختلف اثنان على أنّ العلم تاج السيادة ورمز الانتماء الأول، لكنّ جوهر السؤال، كيف نحمي قدسيته من أن يتحوّل إلى مجرّد بندٍ في تعليمات أو شرطٍ إداري؟ إنّ النقد هنا ليس موجّهًا إلى العلم ذاته، بل إلى الطريقة التي قد تُفقده عفويته وجلاله، فالعلم الذي يُرفع حبًا واعتزازًا يظلّ أغلى وأكثر قيمة من علمٍ يُرفع لمجرّد استكمال معاملة، وما أدعو إليه أن توازي التشريعات الرسمية مبادرات توعوية وثقافية تعيد للعلم بريقه في القلوب قبل أن يرفرف في الطرقات.
جوهر المواطنة لا شكلها
المواطنة الحقيقية لا تختزل في سارية من حديد ولا في قماش يرفرف بالهواء، بل هي روح حيّة تقوم على الثقة المتبادلة بين الدولة وأبنائها، وحين يرفع المواطن العلم من تلقاء نفسه، فهو يرفع الوطن كلّه في قلبه، وهذه القيمة أسمى من أي نصّ مكتوب، لذلك، فإن القصد ليس رفض رفع العلم، بل الدعوة إلى أن يبقى فعلًا حيًّا نابضًا بالوجدان، لا اختبارًا شكليًا تفرضه التعليمات، إنّ غايتنا أن نُعلي من قيمة الرمز، لا أن نُفرغه من مضمونه.
بين الدمع والابتسام… حكاية الأردن
يوم غاب الحسين الجد "رحمه الله"، خيّم الصمت على الجبال والسهول والصحاري، خرجت قلوب الأردنيين من شتّى المنابت والأصول من بيوتها قبل الأقدام، وسارت خلف جنازة أب ووطن، كانت الدموع يومها لغةً أبلغ من أي خطاب، وكان الأنين نشيدًا يليق بوداع ملكٍ اصبح معنىً قبل أن يكون جسدًا.
ثم جاء يوم فرح الحسين الحفيد "حفظه الله"، فابتسمت السماء، ارتفعت الزغاريد، وتعانقت الأهازيج مع الهتافات، وسال الفرح من بيتٍ إلى بيت، لم يكن العرس عرسًا خاصّاً، بل كان عرسًا لأمة، كتبت بضحكاتها عقد ولاءٍ جديدًا، وزيّنت العهد بورود المحبة.
بين دمعة الرحيل وابتسامة العرس، يتجلى سرّ الأردن، الوطنية هنا عفوية، نقية، صادقة؛ تنبثق بلا أمرٍ ولا إلزام، بل من فيض الوجدان حين يذوب الشعب في قيادته.
البعد الفلسفي للرمز
إنّ العلاقة بين الإنسان ورموزه أعمق من أي تشريع، الرمز يُولد ليحرّر المعنى لا ليقيّده، والتاريخ يذكّرنا دائمًا، الرموز تفقد قوتها حين تُفرض، وتستعيد عظمتها فقط حين تبقى فعلًا حرًّا نابضًا من القلب.
الخاتمة
إنّ عمّان، وهي تستقبل ضيوفها بصفوف الأعلام، كان يمكن أن تحكي قصة أجمل لو أنّ تلك الأعلام نطقت بمحبةٍ طوعية، لا بطاعةٍ إلزامية، فالأجنبي لا يقرأ نصوص القوانين، بل يقرأ العيون والإيماءات والروح، ويقرأ التاريخ قبل الزيارة، وإذا سأل: هل هذه الأعلام تنبع من فخرٍ داخلي أم من لائحة تعليمات؟ فالإجابة تكشف نفسها: الوطنية الحقيقية لا تُفرض؛ بل تُعاش.
بين السارية والوجدان مسافة لا ينبغي للقانون أن يمحوها، فالعلم الذي يُرفع بيدٍ حرة يصبح وطنًا منسوجًا في القماش، أما العلم الذي يُفرض بالمرسوم فيغدو شكلًا بلا روح، وما نحتاجه ليس مزيدًا من السواري والأعلام، بل وطنًا حيًا في قلب كل مواطن—قبل أن يرفرف في الهواء.