الأبعاد النفسية والاجتماعية لاتخاذ القرار المناسب
الدكتورة غادة قاقيش
04-09-2025 05:36 PM
يُعدّ اتخاذ القرار من العمليات المعرفية والسلوكية المعقدة التي يواجهها الإنسان في مختلف مراحل حياته، إذ تتداخل فيها عوامل ذاتية وموضوعية، عقلية وعاطفية، فردية وجماعية. ورغم شيوع مصطلح " القرار الصحيح"، إلا أن الدراسات النفسية والاجتماعية تشير إلى أهمية البحث عن " القرار المناسب" الذي يتلاءم مع ظروف الفرد وإمكاناته وقيمه، أكثر من كونه قرارًا مثالياً يتفق الجميع على صوابه. وتزداد أهمية هذه القضية في فترة ما بعد إعلان نتائج الثانوية العامة (التوجيهي) والقبولات الجامعية وبداية العام الدراسي الجديد، حيث يجد الشباب أنفسهم أمام خيارات مصيرية قد تحدد مساراتهم الأكاديمية والمهنية، وترافقها ضغوط نفسية واجتماعية كبيرة.
تؤكد نظريات علم النفس المعرفي (Cognitive Psychology) أن عملية اتخاذ القرار تمر بمراحل من جمع المعلومات، المقارنة، والتقدير العقلاني للنتائج المحتملة. غير أن الضغوط النفسية مثل القلق، الخوف من الفشل، أو التردد، قد تعيق هذه العملية وتجعل الفرد عرضة للأخطاء. كما أشار " دانيال كانيمان" في نظرية التفكير السريع والبطيء إلى أن كثيرًا من القرارات تتأثر بالانحيازات المعرفية والخيارات الحدسية أكثر مما تتأثر بالتفكير العقلاني المتأني.
ووفقًا للمدرسة السوسيولوجية، يُعتبر الإنسان كائنًا اجتماعيًا يتأثر بتوقعات الآخرين ومعايير المجتمع. ففي مرحلة اختيار التخصص الجامعي أو المستقبل المهني، غالبًا ما يتعرض الطلبة إلى ضغوط من الأسرة والمجتمع، التي قد تدفعهم لاتخاذ قرارات لا تعكس بالضرورة ميولهم الذاتية. هذه الضغوط قد تجعل القرار أقل توافقًا مع الطموحات الفردية وأكثر خضوعًا " للنمط الاجتماعي"، مما يخلق صراعًا داخليًا بين الذات الفردية ومتطلبات الجماعة.
من المنظور النمو النفسي ل إريكسون، يُعتبر تحمل المسؤولية عن القرارات جزءًا من مراحل النضج النفسي والاجتماعي. غير أن المسؤولية لا تعني الجمود عند خيار واحد أو اعتباره مصيريًا لا رجعة فيه؛ بل إن المرونة النفسية تمثل عاملاً مهمًا للتكيف مع الحياة، حيث يستطيع الفرد إعادة النظر بخياراته وتعديل مساره وفقًا للتغيرات. فالحياة واسعة ومتنوعة، ولا تقتصر على خيار واحد، بل تمنح الإنسان فرصًا متعددة للتجريب والتعلم وإعادة البناء. هذه الرؤية الواقعية تساعد على تخفيف القلق، وتمنح مساحة أكبر للرضا النفسي.
تُوصي الدراسات التربوية والإدارية باتباع خطوات علمية في اتخاذ القرار، مثل:
1. تحديد المشكلة بدقة: كما أوضح نموذج “Dewey” لحل المشكلات.
2. جمع المعلومات: من مصادر موثوقة ومتعددة.
3. طرح البدائل: وتجنب الانحياز لخيار واحد.
4. المفاضلة: باستخدام أدوات تحليلية مثل " قائمة المزايا والعيوب" أو " مصفوفة القرار".
5. التنفيذ والمتابعة: بما يتماشى مع نظرية " التعلّم من التجربة".
وفي النهاية نستطيع القول إن اتخاذ القرار المناسب ليس حدثًا لحظيًا، بل عملية مركبة تتأثر بالجانب النفسي الداخلي والضغط الاجتماعي الخارجي. وتزداد صعوبتها في الفترات المفصلية مثل ما بعد نتائج التوجيهي وبداية العام الدراسي، حيث تتحدد ملامح مستقبل الشباب. والتعامل الواعي مع هذه التحديات، إلى جانب التحلي بالمرونة، وتحمل المسؤولية، والاعتماد على خطوات علمية منهجية، يُسهم في الوصول إلى قرارات أكثر انسجامًا مع الذات وظروفها. فالقرار المناسب لا يعني الكمال، وإنما التوافق مع الواقع والإمكانات المتاحة، مما يعزز الصحة النفسية ويقود إلى نمو شخصي واجتماعي أكثر توازنًا.
ومن هنا، فإن كل قرار واعٍ يتخذه الشباب هو لبنة في بناء مستقبلهم ومستقبل أوطانهم. فوعي الفرد بخياراته، وإيمانه بمسؤوليته، يزرع في داخله روح القيادة ويصنع منه إنسانًا قادرًا على التأثير والإلهام. نحن بحاجة إلى جيل يتحلى بالشجاعة والمرونة، جيل يعرف أن الحياة أوسع من خيار واحد، وأن الإصرار على التعلم والتجربة هو ما يصنع القيادات الشابة القادرة على حمل رسالة التغيير والمساهمة في نهضة الوطن وتقدمه.
اتخاذ القرار ليس مجرد لحظة، بل خطوة تبني مستقبلك. لا تحصر نفسك بخيار واحد، فالحياة أوسع وأغنى بالفرص. كن مرنًا، تحمّل مسؤولية قراراتك، واصنع منها تجربة تعلم ونمو. أنتم شباب اليوم وقادة الغد، وبوعيكم وشجاعتكم تبنون نهضة وطن يفتخر بكم.
دمتم بود..