الأردن: معركة متجددة لمحو الأمية في العصر الرقمي
فيصل تايه
08-09-2025 01:23 AM
في زمن لم تعد فيه المعرفة حكراً على الكتب ولا الكلمات حبيسة الورق ، يطل علينا اليوم العالمي لمحو الأمية في هذا اليوم "الثامن من سبتمبر" ليضع العالم أمام سؤال جوهري : هل ما زالت الأمية مجرد جهل بالحروف والكلمات ، أم أصبحت عجزاً عن مواكبة العصر الرقمي؟
شعار الاحتفال باليوم العالمي لمحو الأمية لهذا العام "٢٠٢٥"، يأتي تحت عنوان يحمل معه دلالات عميقة ، "محو الأمية من أجل تمكين الإنسان في العصر الرقمي"، حيث جاء ليكشف بوضوح أن الأمية اليوم تعني أكثر بكثير من عدم القراءة والكتابة، وأن المهارات الرقمية باتت جواز المرور الحقيقي إلى التعلم والعمل والمشاركة في حياة عصرية متسارعة.
اننا ونحن نعيش عصر التحول الرقمي فقد تغيّر مفهوم الأمية ، فلم يعد "الأمي" هو من يجهل الحروف والكلمات فقط ، بل من يعجز عن الوصول إلى المعلومات عبر الإنترنت، أو استخدام المنصات التعليمية الإلكترونية، أو التعامل مع التطبيقات والخدمات الحكومية الرقمية، أو المشاركة في العالم الافتراضي بشكل آمن وفعال ، لذلك فان هذا التحول يضع المجتمعات أمام تحد جوهري بكيفية ان نضمن أن لا يترك العصر الرقمي أحداً خلف الركب.
كما ولعل التعامل مع الأدوات الرقمية لم يعد خياراً ترفيهياً ، بل ضرورة حتمية تمكن الأفراد من تطوير أنفسهم باستمرار من خلال التعلم الذاتي وتطوير مهاراتهم باستمرار لتفتح أمامهم فرص العمل في سوق يعتمد على التقنية، كما وتعزز مشاركتهم في المجتمع عبر الخدمات الإلكترونية ، كما أنها تسهم في تقليص الفجوة بين الأجيال والمناطق ، وتشكل ركيزة أساسية للتنمية المستدامة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بتعليم شامل وعادل يواكب متطلبات العصر.
اما وعلى المستوى الوطني ، فقد نجح الأردن في خفض معدل الأمية التقليدية إلى نحو "٥ %" عام (٢٠٢٣) مقارنة بـ "١١%" في عام (٢٠٠٠) ، بحسب بيانات دائرة الإحصاءات العامة لهذا العام فقد انخفضت هذه النسبة لتصل الى "٤.٥%" ، وهو إنجاز لا يستهان به في سياق إقليمي مليء بالتحديات ، لكن ورغم هذا التقدم، ما تزال هناك فجوات قائمة تتمثل في ارتفاع نسب الأمية بين النساء مقارنة بالرجال ، وتفاقمها بين كبار السن ممن تجاوزوا الخامسة والستين لتصل إلى "٢٤.٨%"، فضلًا عن التباين بين المحافظات حيث سجلت معان النسبة الأعلى (٩.٧%) مقابل أدنى نسبة في إربد (٣.٤%).
ولم تتوقف جهود وزارة التربية والتعليم عند حدود الأرقام وحسب ما أعلنت عنه ، بل مضت إلى الميدان العملي عبر افتتاح (٣٤٠) مركزًا تعليميًا خلال العام الدراسي الماضي، التحق بها نحو (٣٤٩٩) دارسًا ودارسة ضمن برامج مجانية تستهدف الفئات التي لم تتح لها فرصة التعليم المدرسي ، وتمضي هذه المراكز اليوم بخطى متقدمة، إذ لا تقتصر على محو الأمية التقليدية بل تسعى أيضاً إلى إدماج محو الأمية الرقمية في برامجها، بما يُمكّن الدارسين من التعامل مع التكنولوجيا الحديثة ، كما تولي الوزارة اهتماماً خاصاً بالنساء في المناطق الريفية وكبار السن الذين يواجهون الأمية التقليدية والرقمية معًا.
إن محو الأمية لم يعد مجرد تعلم أبجديات اللغة من الحروف والكلمات ، بل أصبح تمكيناً شاملاً للإنسان يجعله قادراً على التعلم والعمل والمشاركة وبناء المستقبل ، وفي عصر الرقمنة المتسارع ، يغدو هذا التمكين شرطاً لمجتمع متماسك وقادر على المنافسة عالمياً ، واليوم، ومع احتفال الأردن باليوم العالمي لمحو الأمية، يجدد الوطن التزامه بأن يبقى التعليم "تقليديًا ورقميًا" حقاً مكفولاً للجميع دون تمييز. فالمعركة ضد الأمية لم تنته بعد ، لكنها معركة يمكن كسبها بالإصرار، وبالتكامل بين الجهود الرسمية والمبادرات المجتمعية.
ويبقى القول إن الأمية الرقمية أخطر من الأمية التقليدية، لأنها تحرم الإنسان من الحاضر والمستقبل معًا ، ومن هنا، فإن شعار هذا العام ليس مجرد كلمات، بل هو خارطة طريق نحو مستقبل أكثر إشراقاً وعدالة، حيث تصبح المعرفة الرقمية حقاً للجميع، لا امتيازاً لفئة محدودة.
والله ولي التوفيق..