القلق الأردني واغتراب الوطن
م. عامر البشير
08-09-2025 10:42 AM
من العقد الاجتماعي إلى دفتر الدَّين …
رحلة المواطن الأردني بين المعنى والانتماء
حين تتأزم الظروف السياسية وتتحوّل السياسات الاقتصادية إلى عبء وجودي، لا يعود همّ المواطن مجرد أرقام تتناثر في نشرات الأخبار أو جداول في تقارير دولية، بل يصبح بحثًا شاقًا عن معنى في عالم يضيق أفقه يومًا بعد يوم،
إنها رحلة مشدودة بين الحاجة والحرية، بين طمأنينة البيت وهواجس الغد، بين رغبة الانتماء ومرارة الخذلان من مؤسسات كان يُفترض أن تكون ملاذًا وأمانًا للفئات الرقيقة والمحتاجة، هنا يبرز السؤال الوجودي العميق، كيف يمكن للإنسان أن يحيا حرًا وهو محاصر بقلق المعيشة، بينما مستقبل أبنائه غارق في الغموض؟
كيركغارد وصف القلق بأنه "دوار الحرية"، وماركس رأى "الاغتراب انتزاعًا للإنسان من ثمرة عمله ومعنى وجوده"، فيما نبّه ابن خلدون إلى "أن الظلم مؤذن بخراب العمران"، وأكّد الكواكبي "أنّ الاستبداد أصل كل فساد"، وإذا أسقطنا هذه الرؤى على الحالة الأردنية، سنجد أن القلق لم يعد تجربة فردية عابرة، بل تحوّل إلى قلق جماعي يختبر حدود العقد الاجتماعي ذاته.
الاقتصاد كقيد وجودي
لم يعد التضخم مجرد رقم تقني في مؤشرات البنك المركزي أو نشرات صندوق النقد، بل غدا ظلًا ثقيلًا يلاحق العائلة في دفتر ديون البقالة إلى سوق الخضار الشعبي، ومن محطة الوقود حتى باب مالك المأجور بسبب تراجع القيمة الشرائية للدينار.
الموظف الحكومي الذي يتقاضى 500 دينار يقف اليوم أمام معادلة قاسية، إيجار يلتهم نصف الراتب، فواتير كهرباء وماء تتجاوز المئة دينار، أسعار تموينية ووقود تتصاعد بلا رحمة، وأقساط مدرسية وجامعية تثقل الكاهل. النتيجة، الراتب يتبخر قبل منتصف الشهر، والأسرة تبقى معلّقة في دوامة الاستدانة،
هذه ليست أزمة أرقام أو خللًا في الحسابات، بل شرخ في العقد الاجتماعي الذي تأسس على وعد قديم، من يعمل يجد كرامته، واليوم، حين يتحول العمل من وسيلة للكرامة إلى مجرد وسيلة للبقاء، يفقد الوطن أحد أعمدته الأخلاقية.
الخدمات العامة وانهيار الثقة
في زمن مضى، كان التعليم في المدرسة الحكومية والعلاج في مستشفيات القطاع العام يشكّلان مظلة مساواة ووسادة أمان اجتماعي، لم تكن تلك المباني الإسمنتية مجرد صفوف أو غرف علاج، بل كانت رمزًا لمعنى الدولة وسرّ التماسك.
أما اليوم، فقد اختلّت تلك المنظومة، المواطن يدفع مرتين، ضرائب تُقتطع من دخله، ثم أقساط مرهقة للمدارس الخاصة وفواتير باهظة للعلاج في القطاع الخاص، أبٌ يقف أمام مدرسة خاصة ليدفع قسطًا يتجاوز نصف راتبه يسأل نفسه، لماذا أدفع مرتين مقابل حق أساسي؟ لقد تحوّل التعليم والعلاج من ضمانة اجتماعية إلى عبءٍ يعمّق الفجوة بين الطبقات، ويزرع في النفوس شعورًا بالتقصير من مؤسسات الدولة.
أفول العدالة ومعنى الدولة
لا شيء يفتك بالروح أكثر من الإحساس بأن الجهد لم يعد معيارًا للفرص، حين تصبح الواسطة والمحسوبية مفاتيح الأبواب المغلقة، يتحول الحلم إلى إحباط.
النظام الضريبي يعمّق هذا الخلل، ضريبة المبيعات تطبّق على الفقراء والأغنياء معًا بلا ردّيات للفئات الضعيفة بما يحفظ التوازن وتقلل الفجوة بين الطبقات، فيما يفلت كبار المتهربين من الضرائب وإعفاءات بالملايين، المواطن البسيط يدفع الثمن مرتين، مرة في لقمة العيش، ومرة في العدالة الضائعة.
وهنا يتجاوز السؤال حدود الاقتصاد ليصبح سؤالًا سياسيًا وفلسفيًا، ما معنى الدولة؟ هل هي حارسٌ للعدالة، أم حصنٌ يحمي أصحاب الامتيازات؟ أسئلة مشروعه والهدف منها اصلاحي بحت، والتفكير فيها نقدي إيجابي، وليس إتهامي أو بنيّة التشهير.
القلق السياسي واغتراب الشباب
حين تهتز الثقة بالمؤسسات، ينكمش المجال العام، وتتحول المشاركة السياسية إلى عبء لا معنى له، الشباب الذين هم ركيزة المستقبل وطاقة التجديد، يغادرون روحًا قبل الجسد، بعضهم يهاجر بحثًا عن فرصة، وبعضهم يختار صمتًا ثقيلًا داخل وطنه، ذلك الصمت ليس حيادًا، بل أشد أشكال المعارضة قسوة، اغتراب مزدوج، عن وطنٍ لم يعد بيتًا جامعًا، وعن ذاتٍ لم تعد ترى انعكاسها في مرآة الوطن.
الأفق الإقليمي والقلق المركّب
الأردن لا يعيش في عزلة عن محيطه، فصوت الغارات في غزة يتردّد صداه في عمّان، وأزمات الإقليم تتسلّل إلى تفاصيل الحياة اليومية للمواطن، وارتفاع أسعار النفط والغاز يثقل فاتورة الطاقة، فيما يتحوّل شحّ المياه من أزمة مستقبلية إلى واقع يومي يفرض تقنينًا قاسيًا على الأسر وعلى القطاع الزراعي معًا، أما التجارة البينية والمساعدات الخارجية، فإن تقلّباتها تضاعف هشاشة الموازنة وتترك الاقتصاد الوطني معرّضًا لرياح لا يملك وحده صدّها، وهكذا يمتزج همّ المعيشة الفردي بهاجس المصير الجماعي، ليتحوّل القلق الأردني إلى قلق مركّب، قلق على الحياة اليومية وقلق على الدولة وتحدياتها في آن واحد.
مسالك الإصلاح الممكن
القلق مهما اشتد، ليس لعنة بل جرس إنذار، والاستجابة الصادقة له تبدأ بإصلاح متوازي المسارات:
المسار الاقتصادي
يقوم الإصلاح الاقتصادي على نظام ضريبي عادل يحوّل الجباية إلى عقد ثقة ويعيد توزيع الأعباء بإنصاف، مع دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتمكين الشباب من دخول سوق العمل بعيدًا عن البطالة المقنّعة، ويتعزز هذا المسار بكشف مسار المال العام وضمان عدالة إنفاقه، إلى جانب الاستثمار في مشاريع التحلية والزراعة الحديثة لتحقيق أمن مائي وغذائي مستدام.
المسار الاجتماعي
يرتكز الإصلاح الاجتماعي على استعادة المدرسة الحكومية والمستشفى العام لمكانتهما كرمزين للمساواة، وصياغة سياسة إسكانية عادلة تعيد للبيت معناه كملاذ لا كسلعة، مع تمكين الشباب عبر التدريب والتأهيل المرتبط بحاجات المجتمع، وفي هذا السياق، يصبح النقل والعدالة المكانية امتدادًا لكرامة الإنسان وضمانًا لاحترام الزمن والحياة اليومية.
المسار السياسي
يتأسس الإصلاح السياسي على قضاء مستقل ناجز يعيد الثقة بالعدالة، وعلى توسيع المشاركة المجتمعية واللامركزية بما يمنح القرار جذوره من الأطراف إلى المركز، ويحوّل الرقابة إلى شراكة لا صراع، كما يندرج التحول الرقمي في هذا الإطار كأداة سياسية تردم الهوة بين المواطن ومؤسساته وتبني جسور الثقة من جديد.
المسار الخدماتي
يتمحور الإصلاح الخدماتي حول تطوير النقل العام كحق أساسي يربط المدن بالقرى والعمال بمقاصد الإنتاج وتخصيص ما نسبته 5% من الضريبة التي تتقاضاها الحكومة من المحروقات لدعم مشاريع النقل العام، ويشمل أيضًا تحسين الخدمات الصحية والتعليمية والمائية باعتبارها ضرورات وجودية لا يمكن التفريط بها، ويكتمل هذا المسار بإدماج الطاقة المتجددة والتكيّف مع تغير المناخ، صونًا للبيئة وحمايةً للأجيال القادمة.
الأمل كواجب جماعي
رغم كل هذا، يقف الأردني عند تخوم قلقه وهو يحمل في داخله جمرة لا تنطفئ، جمرة صبر ورثها عن آباء حوّلوا شظف العيش إلى معنى، وجمرة كرامة لم تطفئها ضرائب جائرة ولا مؤسسات عرجاء وفئة من الموظفون العامون القصّر.
القلق ليس لعنة بل طاقة، وهو فرصة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي على أسس جديدة من العدالة والحرية والمساواة، بين لقمة الصّغار وكرامة الكبار، لن يختار الأردني أحدهما على حساب الآخر؛ فالخبز بلا كرامة فتات، والكرامة بلا خبز وهم معلّق في الهواء.
الأمل ليس نزعة رومانسية، بل واجب جماعي، حين تُعاد العدالة إلى الضريبة، وتستعاد قيمة المدرسة ويُختصر طابور الانتظار في المستشفى، ويُصلح نظام النقل الحضري، ويجد الشباب مكانهم في المجال العام، عندها فقط يعود العقد الاجتماعي عهدًا لا ورقة، ويتحوّل القلق من لعنة خانقة إلى طاقة خلاّقة، والاغتراب إلى انتماء متجدد، والدولة إلى معناها الأساس، ليتحقق وطنٌ يحمي، وبيتٌ يجمع، وأفقٌ لا يضيق.