جيل زد عالميًا: قوة صاعدة تعيد رسم الاقتصاد والمجتمع
أ.د تركي الفواز
11-09-2025 12:44 AM
جيل زد (Generation Z) الذين هم مواليد منتصف التسعينيات إلى أوائل العقد الأول من الألفية الثانية، يدخلون اليوم إلى سوق العمل والاستهلاك حاملين معهم سمات مختلفة تمامًا عمّا عرفته الأجيال السابقة،ومع هذا الدخول بدأت ملامح الاقتصاد والتكنولوجيا والقيم الاجتماعية تشهد تحولات غير مسبوقة، هذا الجيل الذي يشكّل حوالي 26% من سكان العالم (أي ما يقارب ملياري شخص) لم يعد مجرد امتداد زمني للأجيال الماضية، بل أصبح قوة رقمية واقتصادية ذات ملامح واضحة تسعى إلى فرض رؤيتها الخاصة في العمل والحياة والاستهلاك، ومن الناحية الاقتصادية تشير التقديرات إلى أن إنفاق جيل زد سيبلغ نحو 12.6 تريليون دولار بحلول عام 2030، وهو ما يعادل 18.7% من الإنفاق الاستهلاكي العالمي، وفي الولايات المتحدة وحدها يصل إنفاقهم إلى حوالي 360 مليار دولار، بينما تشير دراسات حديثة إلى أنهم مرشحون لأن يصبحوا أغنى جيل في التاريخ بحلول عام 2035، بفضل تراكم الثروات المحولة من الأجيال السابقة وانخراطهم المبكر في الاستثمار، ومع ذلك فإن ما يميز هذا الجيل ليس فقط حجم الإنفاق بل طبيعته أيضًا؛ إذ يميلون إلى اختيار العلامات التجارية المستدامة، والبحث عن القيم الأخلاقية وراء المنتجات، كما يفضلون السلع المستعملة باعتبارها خيارًا اقتصاديًا وبيئيًا واعيًا.
هذا الجيل يُعد أول جيل ينشأ بالكامل في بيئة رقمية متكاملة، فالغالبية العظمى منهم بنسبة 95% يمتلكون هواتف ذكية، بينما يستخدم 98% من الفئة العمرية 18–24 وسائل التواصل الاجتماعي بشكل يومي، ويقضون أكثر من ست ساعات يوميًا على الإنترنت، ويُظهرون تفاعلًا أكبر مع المحتوى القصير والمباشر على منصات مثل TikTok وInstagram وYouTube ، هذه الطبيعة الرقمية لم تُغيّر فقط أسلوب تسوقهم واستهلاكهم بل انعكست أيضًا على طريقة تعلمهم وعملهم، حيث يفضلون المنصات التفاعلية ويمنحون ثقتهم للمؤثرين أكثر من الحملات التقليدية، وعلى صعيد العمل يقترب جيل زد من تشكيل ما نسبته 27% من القوى العاملة ، وهو ما يجعلهم عنصرًا رئيسيًا في إعادة تشكيل سوق العمل،غير أنهم لا يضعون التدرج الوظيفي السريع في سلم أولوياتهم، بل يفضلون التوازن بين الحياة والعمل والبحث عن بيئات مهنية مرنة تتيح لهم التعلم المستمر، ورغم ميلهم الواضح نحو ريادة الأعمال والعمل الحر، فإن التحدي الأكبر أمامهم يبقى في هشاشتهم المالية وعدم استقرارهم الوظيفي.
أما على مستوى الاستثمار والوعي المالي، فقد دخل جيل زد إلى هذا العالم في سن مبكرة مقارنة بالأجيال السابقة، تشير البيانات إلى أن نحو ثلثهم يقتحم مجال الأسهم في بداية العشرينات من عمره، مقابل 15% فقط من جيل الألفية و5% من جيل الطفرة السكانية في نفس العمر، كما ينجذبون بشكل واضح إلى الاستثمارات الرقمية والعملات المشفرة، وهو ما يعكس روح المغامرة لديهم ورغبتهم في تحقيق الاستقلال المالي السريع، وفي الوقت نفسه لا يمكن إغفال وعي جيل زد الاجتماعي، إذ يُظهرون التزامًا عميقًا بالقضايا البيئية والعدالة الجندرية والمساواة العرقية ويبحثون عن الشفافية من الشركات والمؤسسات التي يتعاملون معها، غير أن هذه الاتجاهات الإيجابية تتزامن مع ضغوط نفسية واضحة إذ تعاني هذه الفئة من أدنى مستويات الرفاهية النفسية مقارنة بالأجيال السابقة حيث ترتفع معدلات القلق والاكتئاب والشعور بالعزلة، وهو ما يُعزى جزئيًا إلى الاعتماد المفرط على الفضاء الرقمي وتفاعلاته غير المستقرة.
وبالنظر إلى الفرص والتحديات التي تواجه جيل زد، يمكن القول إنهم يمتلكون إمكانيات غير مسبوقة بفضل الأسواق الواسعة والأدوات الرقمية المتاحة والثراء المستقبلي المتوقع، لكن في المقابل تقف أمامهم تحديات جدية مثل الهشاشة المالية والضغوط النفسية، والصعوبة في موازنة الانفتاح الرقمي مع متطلبات الاستقرار الواقعي، من هنا فإن الرهان الحقيقي أمام الحكومات والشركات لا يكمن فقط في تلبية رغبات هذا الجيل، بل في تمكينه عبر تحديث التعليم ودعم الصحة النفسية وتوفير بيئة اقتصادية مستدامة قادرة على ترجمة قدراته الرقمية إلى إنتاجية فعلية.
إن جيل زد ليس مجرد مجموعة من الشباب الصاعدين ، بل يشكّل قوة اقتصادية واجتماعية قادرة على إعادة تشكيل ملامح العالم في العقد المقبل، إن إغفال هذه القوة قد يعني خسارة فرص استراتيجية بينما استثمارها وتمكينها يفتح آفاقًا واسعة للريادة في الأسواق والمجتمعات.
"الرأي"