الانتماء المزيف والولاء الأحمق
جمال القيسي
11-09-2025 12:52 PM
يولد الإنسان محاطا بمصادفات لا فضل له فيها ولا ذنب، فلا هو هو يختار قوميته، ولا دينه، ولا جنسه، ولا لونه ولا لغته، بل ولا حتى اسمه. هويات أولية مفروضة، تُقدَّم للمرء بوصفها حقائق نهائية لا تقبل المراجعة! والمفارقة أن الإنسان يقضي عمره في الدفاع عنها، كما لو أنها ثمرة اختياره الحر. هكذا يتشكّل ما يمكن تسميته بالانتماء المزيف، الذي يولّد بدوره ولاءً أحمق، يُستنزف في حماية قوالب ورثناها قبل أن نتعلم معنى الإرادة.
روسو في العقد الاجتماعي رأى أن "الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا حين يكون الإنسان مشرّعا لنفسه"؛ أي حين يحترم قوانين ساهم في صياغتها. أما ماركس، فكان أكثر جذرية حين وصف الانتماءات التقليدية بأنها أدوات تُسخّر الإنسان لصالح البنية الطبقية التي لم يخترها، داعيا إلى وعي يحرر الفرد من أسر "الأيديولوجيا الزائفة". فيما أضاف هابرماس بدوره بعدا تواصليا، معتبرا أن الانتماء لا يُبنى على الدم أو الجغرافيا، بل على الحوار العقلاني الذي يفضي إلى توافق اجتماعي.
لكننا في العالم العربي ما زلنا أسرى المرحلة الأولى من الانتماء؛ ولاءات قبلية أو دينية أو مناطقية تُستدعى كلما عجزت الدولة عن ترسيخ انتماء مدني جامع. في الأردن مثلا، نرى السلوك الانتخابي مثالا حيا على هذا الانتماء المزيف والولاء الأحمق، وكذلك ندرك كيف تُدار كثير من التعيينات والتشكيلات بمنطق التوازنات الجهوية أكثر من الكفاءة، وكيف تُستخدم العصبية العائلية كوسيلة ضغط حتى في بعض منظمات المجتمع المدني! وفي لبنان، تُدار الحياة العامة وفق نظام طائفي يجعل الولاء للمذهب أقوى من الولاء للدولة. أما في اليمن والعراق، فالمشهد أكثر قسوة حين يتحول الولاء القبلي أو الطائفي إلى سلاح في حرب أهلية.
وعلى النقيض من ذلك، نجد في الدول المتقدمة أن الولاء مُوجَّه نحو الدولة بوصف العلاقة تجاهها عقدا اجتماعيا يضمن الحقوق والحريات. المواطن الألماني أو السويدي مثلا لا يحتاج إلى التلويح بانتمائه العرقي أو الديني كي يحظى بحقه في التعليم أو الصحة أو العمل؛ حيث تكفيه صفة "المواطنة". في الولايات المتحدة أو كندا، يمكن أن تختلف الخلفيات العرقية واللغوية لمواطنيها، لكن الولاء في النهاية يتجسد في احترام الدستور والمؤسسات والقانون. الولاء هنا ليس عاطفة عمياء، بل التزام عقلاني بمنظومة تكفل للجميع مكانا متساويا تحت سقف واحد.
الانتماء الحقيقي ليس هروبا من الجذور ولا قطيعة مع التراث، بل هو إعادة تشكيل العلاقة بين الفرد وما ينتمي إليه على قاعدة الوعي.
أن يكون الإنسان مسلما أو مسيحيا، بدويا أو فلاحا، عربيا أو كرديا، ليس ميزة بحد ذاته ولا فضيلة؛ الخطأ أن يتوقف عند هذه الهوية ويحوّلها إلى قدر مقدس يمنع أي مراجعة أو نقد.
نحن بحاجة إلى مفهوم حقيقي للانتماء؛ انتماء يختاره الإنسان كما يختار أفكاره ومواقفه ومبادئه. انتماء يُبنى على الإرادة الحرة والوعي النقدي، ويُترجم في ممارسات ملموسة: في تعليم يُعلّم التفكير النقدي بدل التلقين، في مؤسسات تساوي بين الناس بغض النظر عن أصولهم ومناطقهم، وفي عقد اجتماعي لا يميّز بين مواطن وآخر. عندها فقط يصبح الانتماء والولاء قيمة عقلانية، لا سلوكا مضطربا لجلب المنافع!