خارطة طريق جديدة للتعليم العالي في الأردن
أ.د منصور حسين المطارنه
15-09-2025 09:13 PM
لطالما كان الأردن رائداً إقليمياً في مجال التعليم العالي، حيث خرّج أجيالاً مهرة ساهموا بشكل كبير في تنمية الأمة وما وراءها. ومع ذلك، ومع توسع قطاع التعليم العالي، ظهر تحدٍ مؤثّر، وهو نموذج "مقاس واحد يناسب الجميع" الذي غالباً ما يؤدّي إلى إستنزاف الموارد. لقد حان الوقت لإعادة تعريف استراتيجية لجامعاتنا، والانتقال من نظام أحادي إلى هيكل متخصّص يحتضن مهاماً مميّزة ويكافئ أعضاء هيئة التدريس وفقاً لذلك. وأعتقد بأنّ قطاع التعليم العالي في الأردن يقف اليوم عند مفترق طرق حاسم.
فمنذ عقود، تحمّلت الجامعات الأردنية عبء الموازنة بين التدريس والبحث العلمي، غالباً بإمكانات مالية ومؤسسية محدودة. ورغم أن الطموح لمنافسة الجامعات العالمية طموح مشروع، إلا أن واقع الحال يوضّح أن معظم جامعاتنا ، خاصة في المحافظات الصغيرة أو البعيدة عن العاصمة، تفتقر إلى التمويل والمختبرات والمعدات وبرامج الدراسات العليا اللازمة لإنتاج بحث علمي ذي قيمة. ومع ذلك، ما زالت هذه الجامعات تطرح برامج ماجستير وأحياناً برامج دكتوراه، رغم غياب الموارد الكفيلة بدعم هذه البرامج. وقد أدى هذا التناقض إلى فرض توقعات غير واقعية على أعضاء هيئة التدريس أولاً، وإلى تشتيت رسالة التعليم العالي الأساسية.
لقد حان الوقت لإعادة تعريف هوية الجامعات الأردنية بطريقة تعكس واقعنا الحالي وتستشرف مستقبلنا. وبالاستفادة من النماذج العالميّة، خاصّة الكندية والأمريكية، حيث بإختصار نحتاج الآن بأن نصنّف مؤسّسات التعليم العالي إلى نوعين: جامعات تعليمية وجامعات بحثية.
الجامعات التعليمية: سيكون تركيزها الأساسي على التعليم الجامعي (البكالوريوس)، مع إعطاء الأولوية القصوى لجودة التدريس، وتطوير المناهج، وخدمة المجتمع. هذه الجامعات يمكن أن تلعب دوراً محورياً في المحافظات الصغيرة، إذ توفر تعليماً جامعياً ميسّراً وقوياً دون تحميل نفسها أعباء تفوق قدراتها.
أما الجامعات البحثية: فيجب أن تكون محدودة العدد ومتمركزة في المؤسسات الكبرى مثل الجامعة الأردنية، أو توزيعها حسب الأقاليم. هذه الجامعات ينبغي أن تحتفظ برسالتها في الدراسات العليا والبحث العلمي المتقدم، بدعم من آليات تمويل أقوى وشراكات وبنية تحتية متينة. تركيز البحث في هذه الجامعات سيسمح للأردن ببناء مراكز تميّز حقيقية بدلاً من تشتيت الموارد على عدد كبير من المؤسسات.
يتطلب التنفيذ الناجح لهذه الرؤية تغييراً جوهرياً في هيكل هيئة التدريس لدينا، حيث يستلزم إطاراً جديداً لأدوار أعضاء هيئة التدريس ومسارهم الوظيفي. ووفقاً للنماذج العالميّة، يمكننا اعتماد مسارين متوازيين:
1.المسار البحثي: يُتوقع من عضو هيئة التدريس أن يجري أبحاثاً أصيلة، وينشر في مجلات علمية محكمة، ويشرف على طلبة الدراسات العليا. ويكون التدرّج الوظيفي فيه عبر باحث مساعد، أستاذ مساعد، ثم أستاذ مشارك، وصولاً إلى رتبة الأستاذية، مع متطلبات واضحة للبحث العلمي والإسهام الأكاديمي.
2.المسار التدريسي: يركز عضو هيئة التدريس فيه على التميز في التدريس والتفاعل مع الطلبة. وتسير الرتب فيه موازية للمسار البحثي: مدرّس، أستاذ مساعد للتدريس، ثم أستاذ مشارك للتدريس، وأخيراً أستاذ للتدريس. الترقية في هذا المسار لا تعتمد على الأبحاث المخبرية أو النشر في المجلات التخصّصية، بل على الكفاءة التدريسية المثبتة، وتطوير المناهج، والبحث التربوي، وخدمة المجتمع، وسنوات الخدمة. كما ينبغي أن يكون من حق أساتذة التدريس الحصول على إجازات تفرغ علمي وفق الشروط نفسها المطبقة على أساتذة البحث، لضمان التطوير المهني المستمر.
إن الفصل بين هذين المسارين سيجعل معايير الترقية أكثر عدلاً. فمن غير المنطقي أن نطلب من عضو هيئة تدريس في جامعة صغيرة أو في المؤسسات التي تركّز على التعليم الجامعي ولا تقدم برامج دراسات عليا ولا تمتلك مختبرات أو تمويلاً ، أن ينشر عدداً كبيراً من الأبحاث العالميّة مثل زملائه في عمّان مثلا أو عضو هيئة تدريس في مختبر بحثي مموّل جيداً. لذلك، يمكن أن تستند معايير الترقية في الجامعات التعليمية إلى:
التميّز التدريسي الموثّق وتطوير طرق التعليم والتعلّم،
البحث التربوي في أساليب التعليم والتعلّم،
الإسهام في تطوير المناهج والاعتمادات الأكاديمية،
سجل مستمر في خدمة المجتمع، وتنفيذ برامج تدريب وورش عمل للطلبة والمجتمع المحلي،
سنوات الخدمة وجودتها، مثلاً 6-7 سنوات قبل الترقية (مع وجود مسار سريع استثنائي).
أما الجامعات البحثية، فتبقى معاييرها معتمدة على الإنتاج البحثي عالي المستوى، والإشراف على الدراسات العليا، والتعاون الدولي.
أخيراً، إن تبني هذا النموذج سيساعدنا في معالجة التحديات المزمنة للتعليم العالي في الأردن. فهو سيسمح للجامعات الصغيرة بالتركيز على رسالتها الأساسية: توفير تعليم جامعي جيد ومتاح لمناطقها. وسيخفف عن أعضاء هيئة التدريس عبء المطالب غير الواقعية المتعلقة بالنشر البحثي وخصوصا في التخصّصات العلمية. وفي الوقت ذاته، سيتيح لجامعاتنا الكبرى أن تصبح فعلاً مراكز بحثية قادرة على المنافسة إقليمياً ودولياً. لقد آن الأوان لأن يتبنى الأردن نظام تعليم عالٍ متمايزاً يوازن بين طموحاتنا وإمكاناتنا. نحن لن ننشئ نظاماً من الجامعات "من الدرجة الأولى" و"الدرجة الثانية"، بل نظاماً من المؤسسات المتخصّصة والعالية الأداء. سيكون لكل جامعة هدف واضح، ولكل أستاذ مسار وظيفي يحتفي حقاً بنقاط قوته ويكافئها. لقد حان الوقت لتجاوز النموذج التقليدي واحتضان خارطة طريق جديدة تعزّز التميّز، والابتكار، وتحقيق عدالة أكبر في المسارات الأكاديمية، وبناء مؤسسات أقوى للأجيال القادمة.