من ميلوسوفيتش إلى إسرائيل .. القانون الدولي على قياس الأقوياء
د. سعيد المومني
16-09-2025 02:11 AM
عندما بدأت دراسة الماجستير في بريطانيا، دخل علينا البروفيسور في أول محاضرة للقانون الدولي، ونظر إلينا بجدية قائلاً: "أعزائي الطلبة، أنتم تدرسون مادة لا تُطبَّق". كانت تلك الكلمات كالصاعقة؛ فهي لم تصف مجرد مأزق أكاديمي فحسب، بل اختصرت أزمة النظام الدولي بأسره، حيث يتحول القانون إلى أداة شكلية تذعن لموازين القوة بدل أن تحمي العدالة.
القانون في جوهره يفترض أن يكون أداةً للعدالة، لكن في العلاقات الدولية سرعان ما يخضع هذا القانون إلى موازين القوى. فإذا كان الضعيف هو المتهم، تنهال عليه القرارات والعقوبات، أما إذا كان القوي - أو المحمي من قوة - فإن القانون الدولي يتحول إلى أوراق أرشيفية لا تملك إلا لغة التنديد. هنا تكمن معضلة "ازدواجية المعايير" التي جعلت من القانون الدولي خطاباً أخلاقياً أكثر منه منظومة مُلزمة.
الأمم المتحدة تمثل هذا العجز بأوضح صوره. عشرات القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، من قرار التقسيم عام 1947 إلى الاعتراف بفلسطين كدولة مراقب عام 2012 وصولًا إلى التصويت الأخير إعلان دعم حل الدولتين، لم تغيّر في واقع الاحتلال شيئاً. إسرائيل لا تزال فوق القانون، محمية بحق النقض الأمريكي، بينما تتكدس القرارات الأممية كوثائق في أرشيف نيويورك.
الأمر لا يتوقف عند فلسطين. يكفي أن نستعيد مشهد (كولن باول) في مجلس الأمن عام 2003 وهو يلوّح بملفات وصور مزعومة عن أسلحة دمار شامل في العراق. تلك اللحظة الكاذبة مهّدت لغزو دمّر بلداً بأكمله، ومع ذلك لم تُفتح أي آلية لمحاسبة المسؤولين، لا على الكذب، ولا على القرارات التي بُنيت على الكذب. وكأن مجلس الأمن ليس سوى أداة لإضفاء الشرعية على إرادة الأقوياء.
جامعة الدول العربية ليست أحسن حالًا. بياناتها وقراراتها أقرب إلى بيانات صحفية تُقرأ ثم تُنسى. في لحظات الأزمات الكبرى، من فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق وليبيا واليمن، لم تُشكّل الجامعة رادعاً ولا أداة تنفيذ، بل بدت في كثير من الأحيان مجرد غطاء لفظي للعجز أو للتواطؤ. والأسوأ أن مكانتها القانونية الدولية تكاد تكون معدومة؛ القوى الكبرى لا تعترف بقراراتها إلا بقدر ما تتوافق مع مصالحها.
أما منظمة المؤتمر الإسلامي، التي يُفترض أنها المظلة الأوسع لتمثيل مليار ونصف مسلم، فقد تحولت إلى مؤسسة شكلية؛ لا تقدّم ولا تؤخر في ميزان السياسة الدولية. ففي قضايا حيوية تتعلق بالمسلمين، من الروهينغا في بورما، إلى الأقلية الإيغورية في الصين، والمسلمين في إثيوبيا وفي إفريقيا الوسطى، وصولًا إلى فلسطين، لم تُقدّم المنظمة أي دور فعلي لحماية حقوق المسلمين أو التدخل لوقف الانتهاكات. اجتماعاتها وخطاباتها تبقى في دائرة التوصيات، دون أدوات ضغط أو قدرة تنفيذية، حتى غدت ذكرى سنوية أكثر منها قوة فاعلة.
ولم تكن المحكمة الجنائية الدولية أفضل حالًا. فالمحكمة التي أظهرت فاعليتها في حالات عديدة وأصدرت أحكاماً نافذة، مثل محاكمة (ميلوسوفيتش) رئيس صربيا ويوغوسلافيا السابقة، أثبتت أنها قادرة على أن تكون سيفاً مسلطاً على رقاب الزعماء حين يكونون من دول ضعيفة. غير أن هذا السيف يغمد تماماً عند الاقتراب من إسرائيل أو أي قوة كبرى. فلم تصدر المحكمة قراراً نافذاً ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين رغم وفرة الأدلة.
لكن المفارقة الأشد قسوة أن بعض الانتصارات العربية لم تتحقق بفضل هذه المؤسسات، بل رغم غيابها. انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000 جاء بفعل المقاومة لا بفعل قرارات مجلس الأمن، وكذلك الانسحاب من غزة عام 2005 لم يكن نتاجاً لقرار أممي بل بفعل الضغط الميداني. وحتى في العراق، لم يُنه الاحتلال الأمريكي قرار أممي بل مقاومة استنزفت واشنطن وأجبرتها على إعادة التموضع. وفي فلسطين، رغم تراكم القرارات الأممية منذ عام 1947، ظل الاحتلال أكثر رسوخاً. وهذا يقودنا إلى سؤال فلسفي: هل القانون الذي لا يُطبق قانون أصلًا؟ أم هو مجرد خطاب أخلاقي يؤجل العدالة إلى إشعار آخر، ويترك الشعوب رهائن لمعادلات القوة حتى إشعار قادم؟
الأكثر إيلاماً أن كثير من النخب والكتاب، لا يزال يتعامل مع جامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي كما لو أنها قادرة على قلب الموازين. كل استباحة إسرائيلية للأجواء العربية، وكل عدوان جديد، ينعش لدى قطاعات واسعة حلماً بأن وزراء الخارجية العرب أو القمم الإسلامية سيخرجون هذه المرة بموقف مختلف. لكن النتيجة واحدة: استنكار، استهجان، وتأكيد على "خيار السلام"، فيما الطرف المقابل يترجم هذا السلام على أنه استسلام لا أكثر ولا أقل.
المدافعون عن القانون الدولي يرون أن هذه القرارات، وإن بدت بلا أثر مباشر، تشكل على المدى البعيد "ذاكرة أخلاقية" و"سجلاً قانونياً" يمكن استثماره يوماً ما أمام محاكم دولية أو في لحظة تغير موازين القوى. لكن هل يكفي أن يظل القانون مؤجلًا إلى المستقبل؟ وهل يقنع هذا شعوباً تعيش تحت الاحتلال أو تحت ويلات الحرب؟.
في النهاية، نعود إلى السؤال الجدلي الذي يلاحق كل نقاش: هل نستمر في الرهان على الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي رغم عجزها، باعتبارها الحد الأدنى الممكن؟ أم نعترف بصراحة أن القانون الدولي مجرد وهم جميل يُدرَّس في الجامعات لكنه لا يُطبق في الواقع، حيث لا يسود إلا منطق القوة؟..