المواطن الأردني .. بين مطرقة الحياة وسندان الأمل
د. بركات النمر العبادي
17-09-2025 10:48 AM
الحياة اليومية للمواطن الأردني باتت أشبه بمتوالية ضغوط ، تبدأ منذ لحظة مغادرته منزله وحتى عودته إليه محمّلاً بأعباء جديدة ، فاتورة الوقود التي تلتهم جزءاً من الراتب ، الى أقساط المدارس والجامعات التي صارت عبئاً يهدد الطبقة الوسطى ، وفاتورة البقالة والخضروات التي تحولت إلى امتحان يومي في كيفية تدبير النقص وسد الاحتياجات ، وحتى حين يمرض الجسد ، يجد المواطن نفسه أمام عقبة أثمان العلاج والأمراض المزمنة ، حيث خرجت كثير من الأدوية من مظلة التأمين الصحي ، ليُترك المؤمن صحياً في مواجهة عجز النظام ، وأسئلة الحياة والموت.
غير أن الأثقال المعيشية لا تقف هنا ؛ فثمة مشهد أشد قتامة يتمثل في بطالة متفاقمة تغلق الأبواب أمام الشباب ، وتدفع بالكفاءات إلى الهجرة أو الاستسلام للفراغ ، الفقر لم يعد حالة استثنائية ، بل تمدد حتى غطّى جل ساحات الوطن ، فأصبح جزءاً من الحياة اليومية للأسر ، أما الفساد ، فقد تحول إلى جرح عميق ينزف ثقة المواطن بمؤسساته ، ويخلق فجوة آخذة بالاتساع بين المجتمع والدولة.
أما عن الابعاد الفلسفية لهذا المشهد المأساوي ، فإن الفلاسفة والمفكرون ، من "جان جاك روسو" إلى "حنة أرندت" ، تناولوا معنى العقد الاجتماعي وشرعية السلطة القائمة على الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها ، وإذا استعرنا من روسو فكرته الجوهرية ، فإن الدولة التي تعجز عن حماية مواطنيها من الفقر والعوز، وتتركهم نهباً للمرض والبطالة ، تفقد جزءاً من شرعيتها الأخلاقية ، أما أرندت ، فقد أكدت أن الفقر حين يصبح معمماً يهدد معنى المشاركة السياسية ذاتها ، إذ يتحول الإنسان من "مواطن فاعل" إلى "فرد يائس" يبحث عن البقاء فقط.
وفي السياق العربي، كتب عبد الرحمن الكواكبي في "طبائع الاستبداد" أن الفساد والظلم إذا اجتمعا ، فهما كفيلان بتحويل المجتمع إلى حالة من الركود واليأس ، حيث ينشغل الناس بمطالب البقاء عن مطالب الحرية ، وهو ما نراه اليوم في الأردن : شعب مثقل بأعباء المعيشة ، ما يحد من انخراطه في المطالبة بحقوقه السياسية والاجتماعية.
وتشير تقارير البنك الدولي (2023) إلى أن نسب البطالة في الأردن من الأعلى إقليمياً ، خصوصاً بين الشباب والنساء ، وهو ما يعمّق الفجوة الاجتماعية ويزيد من هشاشة العقد الاجتماعي ، وفي المقابل ، تذهب دراسات عربية مثل أبحاث "مركز الدراسات الإستراتيجية – الجامعة الأردنية" إلى أن الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة تتآكل كلما شعر الفرد أن البرلمان والحكومة عاجزان عن التصدي لفساد يلتهم الموارد ، أو عن وضع سياسات اقتصادية تراعي الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
ورغم كل ذلك، يبقى الأمل جوهر التجربة الأردنية. فالمواطن، وهو يواجه مطرقة الغلاء والبطالة والفقر والمرض والفساد، لا يزال متمسكاً بسندان الأمل ، الأمل هنا ليس شعوراً عاطفياً فحسب ، بل فلسفة مقاومة ، كما قال الفيلسوف إرنست بلوخ في كتابه "مبدأ الأمل": إن الإنسان حين يفقد كل شيء ، يبقى له أن يحلم ، والحلم ليس هروباً ، بل بذرة لتغيير واقعي ممكن.
الأردني اليوم يواصل حياته مدفوعاً بهذه البذرة ، إذ يرى أن الغد يمكن أن يكون أفضل ، وأن السياسات يمكن أن تُعدل ، وأن المؤسسات يمكن أن تُصلح ، لكن المسؤولية لا تقع على المواطن وحده ، بل هي مسؤولية سياسية وأخلاقية تقع على عاتق البرلمان ، الذي يفترض أنه ممثل الشعب وحارس مصالحه ، وعلى الحكومة التي تمسك بزمام القرار ، إن ترك المواطن وحيداً في مواجهة هذا القدر من الأعباء هو خيانة لمفهوم الدولة ذاته ، فلا وطن يبنى بالصبر فقط ، بل يبنى بالعدالة الاجتماعية ، بنزاهة المؤسسات ، وبسياسات تعطي الأولوية للإنسان قبل الأرقام.
إن التجربة الأردنية اليوم تقف أمام سؤال وجودي : هل تستطيع االحكومة أن تعيد الثقة لشعبها ؟ أم أن مطرقة الحياة ستظل تهوي بلا رحمة على سندان الأمل حتى ينكسر؟ الجواب ليس قدراً، بل خيار سياسي ، ومسؤولية تاريخية في عنق من يملكون القرار.
حمى الله الاردن وسدد على طريق الخير خطى قيادته وشعبه .