التوقيع الرقمي في الأردن .. من النصوص القانونية إلى واقع العدالة الرقمية
المحامي اسامة البيطار
18-09-2025 10:18 AM
مع إطلاق وزارة العدل الأردنية خدمة التوقيع الرقمي على الوثائق القضائية نكون أمام محطة مفصلية في مسار العدالة الرقمية هذا الإنجاز يُسجَّل لوزارة العدل ووزيرها الدكتور بسام التلهوني الذي دفع بهذا الملف بروح متقدمة تنسجم مع رؤية ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني في تحديث منظومة العدالة، ويفتح الباب لتطبيق عملي لما تضمنه قانون المعاملات الإلكترونية رقم 15 لسنة 2015 وتعديلاته، وراء هذا التحول التكنولوجي يقف نص قانوني مهم لا يعرف كثيرون تفاصيله، فقد وضعت التعديلات السابقة إطارًا دقيقًا لتعريف التوقيع الرقمي وحجّيته والعقوبات المترتبة على إساءة استخدامه. فقد نصت المادة 15 على شروط أربعة لكي يُعتد بالتوقيع الرقمي، وهي أن يكون منفردًا بصاحبه، وأن يحدد هوية الموقع، وأن يكون تحت سيطرته عند إنشائه، وأن يرتبط بالسجل الإلكتروني بطريقة تكشف أي تعديل لاحق
ثم جاءت المادة 16 لتضيف بعدًا أقوى عبر الحديث عن التوقيع الموثق وهو التوقيع المرتبط بشهادة توثيق إلكتروني صادرة عن جهة مرخّصة أو معتمدة، بما يرفع من مستوى الحماية القانونية أما المادة 17 فقد منحت السجل الإلكتروني المرتبط بتوقيع محمي أو موثق الحجية القانونية ذاتها المقررة للسند العادي في الإثبات ولا يُمكن إنكاره إلا وفق طرق الطعن التقليدية كالإنكار أو الادعاء بالتزوير.
من الناحية العملية أصبح للتوقيع الرقمي في الأردن ذات القيمة القانونية للتوقيع الخطي وبالتالي فإن السند الإلكتروني الذي يستوفي شروط المادة 15 أو يقترن بشهادة توثيق وفق المادة 16 يتمتع بحجية أمام القضاء تمامًا كالسند العرفي إلا أن الاختبار الحقيقي سيظهر عند الطعن فيه؛ فبدلًا من إنكار الخط أو البصمة كما جرت العادة ستلجأ المحاكم إلى الخبرة الفنية والتقنية للتأكد من سلامة التوقيع الرقمي أو التشكيك بصحة شهادة التوثيق وهذا يوسّع من نطاق مفهوم الطعن بالتزوير ليشمل الأخطاء التقنية أو الاختراقات الأمنية.
ولا يمكن فهم التوقيع الرقمي في القانون الأردني دون العودة إلى المادة 3 التي وضعت قيودًا واضحة على نطاق تطبيقه فقد استثنى المشرع من أحكام القانون معاملات محددة ذات طبيعة خاصة
مثل إنشاء الوصايا أو تعديلها، وإنشاء الوقف أو تعديل شروطه، والتصرفات العقارية والحقوق العينية وما يتطلب التسجيل منها، والوكالات والمعاملات المتعلقة بالأحوال الشخصية، إلى جانب إشعارات الإنذار الخاصة بعقود الماء والكهرباء والتأمين، والأوراق المالية إلا وفق تعليمات خاصة، وكذلك لوائح الدعاوى والمرافعات وإشعارات التبليغ وقرارات المحاكم و هذه الاستثناءات عكست في حينها حذر المشرع من إدخال وسائل إلكترونية على مجالات تتعلق بأدق حقوق الأفراد وأعلى درجات الضمانات القانونية لكنها في المقابل شكلت قيدًا حال دون الانتقال الكامل إلى العدالة الرقمية.
وعلى جانب آخر، فإن القانون لم يترك المسألة دون ردع، فقد نصّت المواد 24–27 على عقوبات تصل إلى الحبس والغرامة بما قد يبلغ مئة ألف دينار بحق من أنشأ أو نشر شهادة توثيق إلكتروني مزورة، أو مارس نشاط التوثيق الإلكتروني دون ترخيص، أو أفشى أسرار عملاء التوثيق وبهذا يكون المشرّع قد كرس فلسفة حماية الثقة العامة في الفضاء الرقمي، إدراكًا منه أن الجريمة الإلكترونية لا تقل خطورة عن التزوير التقليدي.
ويجدر التنويه أن الحكومة لم تقف عند حدود القانون النافذ، إذ وافق مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 27 آب 2025 على الأسباب الموجبة لمشروع قانون معدل لقانون المعاملات الإلكترونية تمهيدًا لإحالته إلى ديوان التشريع والرأي ويهدف المشروع إلى إزالة القيود التي كانت تحد من استخدام التوقيع الإلكتروني في إصدار القرارات والإجراءات القضائية، وتوسيع نطاق تطبيقه ليشمل خدمات الكاتب العدل إلكترونيًا، ومنح الصفة القانونية للمعلومات المستخرجة من السجلات الإلكترونية أسوة بالمستندات الورقية إن الربط بين القانون النافذ والتعديلات المرتقبة يعكس أن الأردن يسير بخطى متدرجة نحو منظومة عدالة رقمية شاملة، تبدأ من الاعتراف القانوني بالسند الإلكتروني، وتمتد الآن لتشمل تحرير الإجراءات القضائية والعدلية من قيد الورق والطوابير.
برأيي، إن إطلاق التوقيع الرقمي يمثل خطوة كبيرة تعزز حق المواطن في الوصول إلى العدالة بيسر وسرعة، وتقلل الكلف والوقت، لكنه يثير في الوقت نفسه تساؤلًا حول المساواة في الاستفادة من هذه الخدمة هل جميع المواطنين قادرون على تفعيل هويتهم الرقمية واستخدام هذه الأدوات؟ العدالة الرقمية قد تكون وسيلة لردم الفجوة أو لتكريسها، ومن هنا تبرز مسؤولية الدولة في تعميم البنية التحتية الرقمية، وتكثيف التدريب والتوعية، حتى لا تتحول التقنية إلى أداة إقصاء.
التوقيع الرقمي في الأردن لم يعد مشروعًا مستقبليًا، بل أصبح واقعًا تشريعيًا وعمليًا و وزارة العدل فتحت الباب والقانون وفّر الغطاء والتعديلات المرتقبة ستؤسس من نطاقه، ويبقى على المحامين والقضاة والخبراء أن يتعاملوا مع هذه الأدوات بوعي قانوني وتقني معًا.
إننا اليوم أمام فرصة لإعادة صياغة نظرية الإثبات بما يواكب الثورة الرقمية حجية بلا ورق، وعدالة بلا طوابير، ومستقبل يوازن بين النص القانوني وروح التقنية.