الوعي بين الأسطورة والواقع
م. عامر البشير
18-09-2025 11:23 AM
الإنسان في مرآة ضعفه وتناقضاته منذ فجر التاريخ، لم يكن السجلّ مرآةً صافية للأحداث، بل أداةً في يد السلطة تُعيد من خلالها صياغة الحكايات لتلمّع صورة الغالب وتطمس معاناة المغلوب.
السلاطين نقشوا أسماءهم ليُخلّدوا، والإعلام صاغ رواياته ليكرّس هيمنته، والمؤرخون أخفوا من الحقيقة ما يوافق أهواءهم أو مصالح من رعَوهم، وهكذا لم يعد التاريخ صفحة شفافة، بل زجاجًا مُغبّشًا يُظهر نصف الحقيقة ويُخفي نصفها الآخر.
لكن خلف هذا الزجاج يقف بشرٌ من لحم ودم، بضعفهم ورغباتهم وتناقضاتهم، غير أنّ المدرسة والإعلام أصرّا على محو هذه الملامح الإنسانية، فحوّلوا البشر إلى أيقونات مصقولة وأبطال منزّهين، وبذلك حُرمنا من أعمق درس، أن العظمة لا تنبع من الكمال، بل من الهشاشة، ومن قدرة الإنسان على إدراك ضعفه وتجاوزه.
الوهم المقدّس وصناعة الأبطال
ما درّسونا إياه لم يكن تاريخ البشر، بل تاريخ الرموز، قيل لنا إن سعد زغلول هو "الزعيم الخالد"، ولم يُذكر أن مذكّراته تحفل بجانب من اللهو، قيل إن هدى شعراوي "رائدة التحرير"، ولم يُذكر أنها صدمت مجتمعًا محافظًا بجرأتها ولباسها، قيل إن طه حسين "عميد الأدب العربي"، ولم يُذكر صراعه المرير مع النصوص المقدّسة وخلافاته مع المؤسسة الدينية.
هذه ليست إدانات، بل ملامح بشرية، غير أن المشكلة كانت في تقديمهم بلا تناقض، وكأن البطولة لا تُكتسب إلا بمحو الجانب الإنساني، بينما الحقيقة أن الإنسان لا يكتشف عظمته إلا حين يتصالح مع ضعفه.
الإعلام كآلة لإعادة تشكيل الذاكرة
الإعلام، قديمًا وحديثًا، لم يكن يومًا بريئًا؛ لقد أعاد باستمرار تشكيل الذاكرة الجماعية بما يخدم أجندات سياسية أو ثقافية.
فرج فودة وُسم بالزندقة حيًّا، ثم أُعيد تقديمه شهيدًا للكلمة بعد اغتياله.
نوال السعداوي حوربت من مجتمعها، ثم رُفعت لاحقًا إلى مصاف رموز التنوير.
تختزل الكاميرا المشهد لتُظهر مسؤول منقذًا من أزماتٍ هو نفسه من أنجبها.
حتى معاهدات كبرى مثل كامب ديفيد ووادي عربة مُجّدت على الصفحات الأولى، بينما أُخفيت بنودها الأكثر حساسية في الأدراج.
لم يكتفِ الإعلام بتجميل الواقع، بل أعاد بناء الحقيقة ذاتها، محاصرًا وعينا داخل حدود مرسومة، وهكذا نشأت أجيال بذاكرة لم تولد من التجربة، بل صُنعت في غرف الأخبار.
الإنسان خلف القناع
وراء كل رمز تاريخي يقف إنسان:
خلف تحدّي طه حسين يقف صبي فقير كفيف يسعى لشق طريقه في مجتمع يرفض الإعاقة.
خلف هالة سعد زغلول يقف رجل تغلبه الرغبات أحيانًا.
خلف جرأة هدى شعراوي تقف امرأة تبحث عن مكانة واعتراف.
خلف أسطورة أم كلثوم تقف مغنية قروية بدأت بالغناء في مهرجانات ريفية بسيطة.
هذه التناقضات لا تُقلل من قيمتهم، بل تجعلهم أقرب إلينا وأكثر صدقًا وحقيقة، وبمحوها يسرق منا التاريخ هديته الأصيلة، صورة الصراع الإنساني مع الضعف.
من رموز الأمس إلى "أبطال" اليوم
ما جرى لرموز القرن العشرين يتكرر اليوم بوتيرة أسرع، في زمن وسائل التواصل، يُصنع "البطل" في ساعات، ثم تتهاوى أسطورته بالسرعة نفسها.
قائد أو ناشط أو متظاهر قد يتحوّل إلى "ترند" عالمي، ثم تظهر هشاشته الإنسانية خلف القناع. من الربيع العربي إلى الحركات الحقوقية العالمية، شهدنا رموزًا صيغت من شعارات وصور، ثم انكشفت سريعًا.
لم تعد صناعة الأسطورة حكرًا على السلطة أو الإعلام؛ صارت طقسًا جماعيًا يشارك فيه الجمهور عبر الإعجابات والمشاركات.
نحو وعي جديد
لسنا بحاجة إلى هدم الرموز أو شيطنة الأبطال، بل إلى إعادة قراءتهم بعين نقدية. فالتاريخ ينبغي أن يكون مختبرًا للتفكير، لا نصًا للحفظ.
علينا أن نحرّر أنفسنا من الروايات الرسمية، نقرأ المذكرات والأرشيفات، ونتبنّى التساؤل بدل الترديد. الحقيقة لا تُمنح جاهزة في الكتب أو النشرات؛ إنها تُبنى عبر النقد والمقارنة والتفكيك والتحليل.
وعندما نجرؤ على نزع الأقنعة سندرك أن البطولة لا تكمن في الكمال، بل في الشجاعة التي تُحوّل الهشاشة إلى قوة.
الخاتمة
لم يكن التاريخ يومًا خاليًا من التزييف، ولا الإعلام بريئًا من التوجيه. لكن العيب الأكبر أن نترك وعينا أسيرًا لهذه الروايات دون نقد أو مراجعة. فحين نعيد قراءة الماضي بعين ناقدة، نكتشف أن الرموز لم يكونوا سوى بشر مثلنا، تتجسّد عظمتهم لا في عصمتهم بل في صراعهم مع الضعف وتغلبهم عليه.
هناك فقط يولد الوعي الجديد، وعي يحررنا من الأصنام، ويجعلنا أكثر إنسانية.