حين يشتعل حدثٌ ما تتوتّر الأعصاب ويبحث الناس عن جملةٍ تقف معهم لا عن حُجّة تقف أمامهم. تتقدّم العاطفة لتؤدّي وظائفها الطبيعية، تضميد الألم، ترميم الشعور بالانتماء، وصناعة يقين سريع يطمئن المجتمع.
في هذه اللحظة بالذات يولد مأزق الكاتب، إن كتب ما يريح المزاج العام، خان حساباتٍ دقيقة ضرورية لمنع ضرر أكبر غدًا، وإن كتب ما تُمليه عليه مسؤوليته المعرفية، ظهر كأنه ضد الناس لا معهم، وصار هدفًا لاتهامات الخيانة أو البرود أو "التنظير من الأبراج العاجية".
هي ليست ثنائية "شعب/نخبة" تبسيطية، بل تعارضٌ بين منطقين مختلفين للمعرفة والعمل. منطق العاطفة العامة سريع وقطعي، يحتاج وضوحًا أخلاقيًا مباشرًا، ويُفضل قصة فيها بطل وخائن، له دوره ولا ينبغي احتقاره، فهو يحمي لُحمة المجتمع ويمنح المظلوم اعترافًا. غير أن هذا المنطق نفسه يصبح خطِرًا إذا تحول إلى المعيار الوحيد لاتخاذ القرارات العامة، لأن السياسة إدارةُ تعقيد ومالات، لا إدارة مشاعر فقط.
في المقابل، يبدو منطق الكتابة المسؤولة بطيء ومتردّد ظاهريًا، يقدّر الكُلفة والاحتمال، يضع البدائل، ويخاف من النتائج غير المقصودة.
الكاتب هنا ليس قاضيًا يصدر أحكامًا نهائية، بل مُيسِّرٌ يوسع إطار النظر ويطرح تساؤلات، ماذا سيحدث بعد أسبوع؟ بعد عام؟ ماذا نخسر إذا انتصر الانفعال الآن؟ وما الثمن إذا صمتنا؟ إنه منطق "المصلحة العامة بعينٍ رحيمة" لا يُسفّه الألم ولا يركع له، بل يعترف به ثم يُعيد تأطيره لئلا يتحول إلى محرك قراراتٍ مُدمِّرة.
لماذا يُستهدَف الكاتب حين يخالف المزاج؟ لأنّه يُربك سردية الطمأنة الفورية، ويُهدّد هويةً جمعيّة تبحث لحظتها عن وضوحٍ (أبيض/أسود). ولأن اقتصاد الانتباه اليوم يعيش على تضخيم الغضب، فيُكافئ الخطاب الحادّ ويعاقب التعقيد.
في هذا السياق تصبح الشجاعة المعرفية مكلفة، لا مكافآتٍ فورية، بل شبه حصارٍ رقميّ، وتصيّدٌ للنوايا، وتحويلُ السؤال المعرفي إلى محكمةِ ولاءات.
لكن وظيفة التنوير ليست رفاهيةً نخبوية. هي بوليصةُ تأمينٍ أخلاقية ضدّ خطأٍ جماعي قد يقع تحت ضغط اللحظة. المجتمعات التي تسمح لأصوات "الفرامل" بالعمل ساعة تسارع العربة، تقلّ فيها احتمالات الاصطدام الكارثي.
هذا لا يعني أن الكاتب معصومٌ من الخطأ، بل يعني أنه يقبل المساءلة بشرط أن تكون بالحُجّة لا بالتشهير. التنوير الحقيقي لا يُبشّر بالحياد البارد، بل بـتعاطفٍ منضبط بالحقيقة، يبدأ من الاعتراف بالمظلومية ثم يميّز بين فهم الدوافع وتبرير الأفعال ويقيس البدائل على موازين العدالة والقدرة والكلفة والمآلات.
ثم إنّ مسؤولية الكاتب لا تنتهي بطرح الموقف، بل تبدأ بـتقديم بديلٍ عملي، ليس كافيًا أن تقول "لا تفعلوا"، بل يجب أن تقول "افعلوا هذا بدلًا من ذاك" مع تبريرٍ واضح. فالكلام ضدّ المزاج العام بلا بديلٍ محترم يشبه طبيبًا يُحرِّم الدواء الوحيد المتاح ولا يقترح خطة واقعية للألم.
في المقابل، على المجتمع أن يحمي حقَّ الاختلاف وقت الأزمات. ليس لأن المختلف "أذكى"، بل لأن الاختلاف مصلحةٌ عامة، هو تهويةٌ لغرفةٍ مكتظّة، يمنع اختناق القرار. وحين تتقدّم موجات التشهير، ينبغي للمؤسسات إعلامًا ومنابرَ عامة ومنصات ألا تُسلّع الغضب كي تزيد تفاعلاتها.
أما غرف الأخبار والجامعات والجمعيات الثقافية والأحزاب، فعليها أن ترعى مساحاتٍ للجدل المسؤول، حيث تُختبر الحجج في علنٍ هادئ، لا في ساحاتِ اصطيادٍ أخلاقي.
الكاتب مهما كان ضليعًا، ليس وصيًّا على الناس. شرطُ شرعيته الشفافية والمنهج، أن يُبيّن من أين أتى بمعلوماته، كيف قاس التداعيات، ولماذا يرجّح خيارًا على آخر. وأن يقبل تصحيحًا علنيًا حين يخطئ. تواضعُ العارف يخفّف من تلقائية الدفاع الاجتماعي ضدّ النص النافر.
في المحصّلة، لسنا أمام صراعٍ بين "قلب" و"عقل"، بل أمام تدبيرٍ مشترك، قلبٌ يعترف بالوجع ويمنع القسوة، وعقلٌ يحسب المآلات ويمنع الحماقة. وظيفة الكاتب ليست أن يقول للمجتمع أنه مخطئ، بل أن يوسّع مدى رؤية هذا المجتمع كي يرى ما تحجبهُ اللحظة. ووظيفة المجتمع ليست أن يصفّق له حين يوافقه فحسب، بل أن يحمي حقّه في أن يخالفه حين يرى الخطر في الطريق.
الكتابة خلاف الريح ليست محبة في العناد، بل هي ايمان بأنّ سفينة تبحرُ فقط باتّجاه العاصفة قد تغرق، وأن قليلًا من الانحراف المدروس -المزعج لحظتَها- هو ما يُنقذها عند خطّ الموجة التالية. التنوير، في جوهره، ليس إطفاءً للعاطفة، بل تسليطُ ضوء على الطريق كي لا تقودنا حرارة اللحظة إلى ظلامٍ أبعد.