الظاهرة الصوتية وسيلة لتزييف الوعي
د. ماجد الصمادي
21-09-2025 01:17 PM
في عالم تُبنى فيه الدول على أكتاف الوعي والمعرفة، تبقى الظاهرة الصوتية في ثقافتنا العربية مجرد صدى لا يوقظ أحدًا، لا بل أداة ممنهجة لتزييف الوعي الجمعي.
في ذروة النكسة كانت هناك إذاعة تلهب حماس الجماهير بشعارات ( تجوع يا سمك)، و( الانتصارات الساحقة).
كان الصوت مدويًا، صاخبًا، عاطفيًا. لكن ما الذي حدث على الأرض؟ هزيمة نكراء، ضياع الارض، وصدمة لم يتعافى منها الوضع العربي بعد.
كان ذلك الصوت أداة تخدير جماعي، قُدّمت من خلاله الهزيمة على أنها نصر، والانكسار على أنه صمود. لقد خدع الصوت الناس، وأخفى عنهم الحقيقة المرّة، حتى سقطت الكارثة على رؤوسنا دفعة واحدة.
في مشهد سوداوي آخر لا يُنسى، وقف وزير اعلام يتحدث بكل ثقة عن سحق الغزاة العلوج، بينما دباباتهم كانت في قلب العاصمة . ابتسامة ساخرة، ولغة تهكمية، وشعارات جوفاء تملأ الهواء… ثم اختفى كل شيء فجأة.
لقد تحوّلت تلك الكارثة الوطنية والقومية إلى مسرحية إعلامية عبثية. وكأنه كان يمثل دور الناطق باسم الصوت، لا باسم الحقيقة. لقد استخدم الصوت كدرع نفسي، لا لحماية الناس، بل لعزلهم عن الواقع.
في السياق ذاته ومنذ عامين ، برزت رموز إعلامية شديد التأثير. تتحدث بلغة قوية، تنذر، نتوعد، تهدد. ولا شك أن حضورها الصوتي لعب دورًا في رفع معنويات الكثيرين. لكن هل تحقق دائمًا ما قيل؟ أم أن الخطاب الصوتي قد ضخم الانتصار، وقلل من حجم الخسارة، وصنع حالة وجدانية لا تعبّر بالضرورة عن ميزان القوى الحقيقي؟
حين يتحوّل الصوت إلى سلاح نفسي لا يرافقه إنجاز واقعي، يصبح أداة مزدوجة: نشوة قصيرة المدى، وخداع جماعي طويل الأمد.
المشكلة هنا ليست في امتلاك الصوت، بل في الاكتفاء به. الصوت في ذاته ليس شرًّا؛ قد يكون محفزًا، أو جزء من المعركة، لكن حين يُستخدم كبديل للفعل، وكوسيلة لحجب الحقائق، يصبح خيانة معرفية.
إنّ الظاهرة الصوتية ليست مجرد ميل ثقافي نحو الخطابة، بل هي منهج سلبي في إدارة الواقع: كلما عجزنا عن التغيير، صرخنا أكثر. وكلما اقتربت الكارثة، علا صوت الانتصار الزائف.
إن استمرار هذا النموذج في الثقافة العربية يعكس عمق الأزمة: الصوت لا يزال يُقدّم على الفعل، والانطباع يُفضَّل على النتيجة، والشعارات تُعلَّق على الجدران بدل أن تُزرع في الأرض. من الصوت الاول للثاني للثالث ، لا يتغير شيء سوى نبرة الصوت، أما منطق التزييف فهو نفسه: مقاومة وهمية، وانتصارات وهمية، وواقع يزداد قتامة.
اما آن لنا أن نكسر قيد الصوت، ونتحرر من عبودية الخطاب، وننحاز إلى ما هو أصعب وأكثر صدقًا؟ الوعي العميق والفعل الحقيقي .