"بين الأرقام والطموح" قراءة في نتائج القبول الجامعي
فيصل تايه
22-09-2025 08:59 AM
أصدرت وحدة تنسيق القبول الموحد في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي نتائج القبول للعام الجامعي ٢٠٢٥–٢٠٢٦ بعد جهد متواصل ومراجعات دقيقة استغرقت أسابيع طويلة، تضمنت تقييم الطلبات وتنسيق الأعداد مع الجامعات ومواءمة التخصصات مع احتياجات سوق العمل ، اذ ان هذه النتائج ليست مجرد أرقام على الورق، بل تعكس إرادة وطنية حقيقية لتقديم صورة عادلة وشفافة للطموحات الجامعية، وإخراج القبولات بصورة نهائية بعد مخاض طويل ومعقد، ما يظهر حجم الجهد الذي بذلته الوزارة لضمان العدالة والشفافية وإتاحة الفرص لكل طالب في كل محافظات المملكة.
من الواضح وكما اعلن ان عدد الطلبات الصحيحة المقدمة قد بلغ أكثر من "٧٤ ألف" طلب، فيما تم ترشيح نحو "٤٦,٥٦٦" طالبا وطالبة للقبول، وبقي "٢٧,٩٥٥" خارج القوائم الرسمية جلهم بسبب سوء الاختيار ، كما وكشف مدير عام وحدة تنسيق القبول الموحد "مهند الخطيب" أنّ أدنى معدلات القبول الجامعي في التخصصات العلمية بلغ "٦٩,١٥%" في حين كان للتخصصات الادبية "٦٩,٨٥%" ، حيث ان هذه الأرقام تكشف الطموح الجامعي الهائل للشباب ، لكنها في الوقت نفسه تعكس فجوة قائمة بين الرغبات الفردية وقدرة الجامعات على الاستيعاب، وبين ما يتطلبه سوق العمل الأردني ، فالمشهد يتكرر سنوياً ، حيث الإقبال الكبير على الطب وطب الأسنان والهندسة وعلوم الحاسوب ، مقابل فتور ملحوظ في تخصصات أخرى قد تكون أكثر حاجة للاقتصاد والمجتمع، ما يجعل من الضروري النظر بعمق في التوازن بين اختيارات الطلبة واحتياجات الوطن.
في هذا السياق ، اتخذت الوزارة خطوات استباقية لمواجهة آثار التخصصات المشبعة، بتقليل أعداد المقبولين في تخصصات الطب وطب الأسنان، واستحداث نحو "٣٠" تخصصاً جديداً متوافقاً مع التحولات التكنولوجية ومتطلبات الاقتصاد الوطني ، تشمل الذكاء الاصطناعي، وعلوم البيانات، والطاقة المتجددة، والرعاية الصحية المجتمعية وغيرها ، حيث ان هذه التوجهات ليست خيارات عابرة، بل جزء من رؤية استراتيجية طويلة الأمد لتكييف التعليم العالي مع احتياجات سوق العمل، الذي يبحث اليوم عن المهارات قبل الشهادات التقليدية.
اما بالنسبة للجامعات ، فإن التحول نحو التخصصات الناشئة والبرامج الجسرية يعني ضرورة الاستثمار في البنية التحتية من مستشفيات جامعية، ومختبرات متقدمة، وبرامج تدريبية لأعضاء الهيئة التدريسية، وربط البرامج الأكاديمية بعقود تدريب عملية مع القطاع الخاص ، في الوقت الذي تكون الوزارة مطالبة بتخطيط استراتيجي طويل الأمد لا يقتصر على ضبط الأعداد، بل يشمل تمكين الطلاب وإعادة توزيع الفرص بما يتوافق مع تطلعات الاقتصاد الوطني.
لكن هذا التغيير لا يقتصر على سياسات الوزارة وحدها ، بل إنه مسؤولية المجتمع بأكمله ، فهذه رسالة واضحة توجه للطلبة وأولياء الأمور ، فالنجاح لم يعد مرتبطاً بالانضمام إلى تخصصات الطب أو الهندسة أو القانون ، بل بالقدرة على اختيار تخصص يفتح باباً لوظيفة حقيقية ويمنح مهارة يحتاجها الوطن ، مع التركيز على تخصصات تتماشى مع خطط التنمية الوطنية ، كالزراعة الحديثة، والطاقة النظيفة، والصناعات الدوائية، والخدمات الرقمية، ما سيجعل الطلاب جزءاً من الحل لا جزءاً من الأزمة.
ولتدعيم هذا التحول ، يجب أن تسود ثقافة جديدة تقدر التعليم التطبيقي بقدر التعليم الأكاديمي، وتعلي من شأن المهارات والمعرفة العملية، وتعترف بالتخصصات التقنية والمهنية كمسارات ذات قيمة حقيقية، لا خيارات ثانوية ، فهذا التحوّل الثقافي ضروري إذا أردنا أن يصبح التعليم العالي أداة لبناء اقتصاد مستدام، لا مجرد رافعة لتكديس الشهادات.
انا ارى ان نتائج القبول الموحد هذا العام أثبتت أن التحديات كبيرة ، لكنها ليست عصية على الحل ، فالمطلوب هو شراكة ثلاثية الأطراف ، من خلال "وزارة تخطط" وتعيد هيكلة سياسات القبول ، و"جامعات تستثمر" في جودة التعليم وتطوير البنية التحتية، و"مجتمع" يغير نظرته إلى مستقبل أبنائه ويمنحهم حرية التفكير خارج الصندوق التقليدي ، لاننا أمام فرصة حقيقية لتحويل القبول الجامعي من مجرد إعلان سنوي إلى خارطة طريق وطنية، تربط التعليم بسوق العمل وتفتح الأفق لجيل يمتلك الثقة والمهارات اللازمة لبناء المستقبل.
هكذا تصبح نتائج القبول الموحد أكثر من مجرد أرقام على الورق ، فهذه دعوة للتغيير الثقافي والمؤسسي العميق ، وإعادة النظر في معنى التعليم العالي ودوره في المجتمع ، إذا أحسنا استثمار هذه اللحظة، فإن الأردن لن ينجح فقط في إدارة أعداد طلبته ، بل سيبني جيلاً قادراً على تحويل التحديات إلى فرص، وكتابة فصل جديد من قصة التنمية الوطنية.
والله ولي التوفيق