فلسطين بين وعد بلفور وحل الدولتين
د. بركات النمر العبادي
23-09-2025 11:39 AM
الاعتراف المشروط بحل الدولتين : هو إعادة إنتاج لوعد بلفور بأقنعة جديدة ، لم يكن الاعتراف البريطاني والأوروبي بـ"الدولة الفلسطينية" خطوةً نحو العدالة بقدر ما كان إعادةً تجميلية لوجه قديم من وجوه الاستعمار ، فالدول التي رسمت حدود سايكس–بيكو، وشرعنت وعد بلفور، واحتضنت قيام المشروع الاستيطاني على أرض فلسطين ، هي نفسها اليوم من تقدّم لتوزيع شهادات الاعتراف ، أيُّ اعتراف هذا الذي يُمنح بدم بارد بعد أن تحوّل الشعب الفلسطيني إلى رهينة مجاعة وحصار ومجازر يومية؟
كأردني ، لا أستطيع أن أنظر إلى فلسطين كقضية بعيدة أو نزاع خارجي يُدار في مؤتمرات نيويورك أو بروكسل ، فلسطين تعيش في وجداننا ، في مخيمات اللجوء الممتدة منذ النكبة ، وفي ذاكرة كل بيت أردني اختلطت دماؤه وأحلامه بأحلام الفلسطينيين في العودة والتحرر.
وعندما نسمع اليوم عن "اعتراف بريطاني أو أوروبي" بالدولة الفلسطينية ، فإننا لا نُخدع بهذه الواجهة الدبلوماسية ، فالدول ذاتها التي صنعت وعد بلفور، وشرعنت المشروع الاستيطاني لليهود ، ورسمت خرائط سايكس - بيكو ، هي التي تحاول الآن إعادة إنتاج المشهد بوجه جديد ، اعتراف مشروط ، محكوم بميزان القوى ، يختزل القضية إلى "نزاع حدودي" ويغضّ النظر عن الحقوق الجوهرية للفلسطينيين : العودة ، التعويض ، السيادة الكاملة ، والتحرر من الاستعمار.
في قلب هذا المشهد يقف الأردن — بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني — حاملاً عبء الدفاع عن القدس والمقدسات ، ومؤكدًا في كل المحافل أن الحقوق الفلسطينية ليست موضع تنازل أو مقايضة ، فالأردن لم يتاجر بالقضية ، ولم يسعَ إلى مكاسب آنية على حسابها ، بل دفع ثمنًا إنسانيًا واقتصاديًا هائلًا نتيجة احتضان ملايين اللاجئين الفلسطينيين ، دون أن يحوّل هذا العبء إلى ورقة ابتزاز ، بل ظل يعتبره التزامًا تاريخيًا وأخلاقيًا لا ينفصل عن هوية الأردن ووجوده.
لكن الاعترافات الغربية اليوم تكشف جوهر المفارقة : أوروبا وبريطانيا تسعيان لإبراء ذمتهما من جريمة تاريخية عبر منحة سياسية مشروطة ، بينما الأردن والعرب هم من يتحمّلون التبعات الحقيقية ، فهل يمكن لاعتراف شكلي أن يمحو مئة عام من الاستعمار ؟ وهل يكفي ليعيد للفلسطيني بيته وأرضه وحقه في الحرية؟
الحقيقة أن الاعتراف الأوروبي ليس انتصارًا ، بل استمرار لإدارة الصراع ، أما الانتصار الحقيقي فلن يأتي إلا عبر نضال سياسي وشعبي يتجاوز أوهام "حل الدولتين"، ويستند إلى ثوابت لا تتجزأ : العودة، التحرر، والسيادة الكاملة.
الأردن ، بحكم التاريخ والجغرافيا والهوية ، سيظل في قلب هذه المعركة ، ليس كوسيط محايد بل كشريك أصيل في النضال من أجل فلسطين ، وما الاعترافات الغربية سوى أصوات باهتة أمام صوت الحقيقة : أن فلسطين حقٌّ كامل لا يُختصر ، وأن الأمة ، مهما طال الزمن، لن تقبل بأقل من الحرية الكاملة.
وختامًا، فإن ذاكرة الشعوب المحبة للحرية لا تموت ، قد تتلاعب السياسات وتُكتب الوثائق ، لكن الحق يبقى عصيًّا على النسيان ، والوعي الجمعي للأردنيين والفلسطينيين والعرب جميعًا سيظل شاهدًا على أن الاستعمار يزول ، بينما الشعوب التي تتشبث بحقها في الحرية هي وحدها التي تبقى وتنتصر.
حمى الله الاردن وسدد على طريق الخير خطى قيادته وشعبه