الطبيعة لا تقبل الزحام، والناس تخلق في اماكن يجدون فيها ما يشبع حاجاتهم، واذ لم يجدوا ما يأكلونه يهاجرون الى حيث الكلأ والمرعى، هذه هي اصل الطبيعة والحياة قبل الاستقرار، وبعد الاستقرار فان التزاحم في مربع صغير يخلق التناحر والعداء وضيق الحال وقلة المال والشكوى وعدم التقدم.
هذه المقدمة تفضي الى حال الاردن اليوم، فقد كانت هذه الارض المسماه شرقي الاردن، بلاد شاسعة تعيش فيها القبائل وقطعانها من الابل والغنم في رغد العيش، ويعيش في قراها بعض القرويين الذين يأكلون من خيرات الارض في قراهم الوادعة حيث نهاية الافق، كان هذا منذ ان خلق الله الارض وما عليها.
بعد قيام الدولة الاردنية الحديثة، تدفق الناس على الاردن للعمل في حكومتها الناشئة، وكان هذا مقبولا الى حد ما، لان اهل البلاد انذاك لم يكونوا مؤهلين بالمستوى الذي يستطيع اهلها تسيير اعمال الحكومات، بينما ادخل بعض ابناء القبائل الى الجيش، وبقي القرويين في اراضيهم يعيشون سعداء.
مع ازدهار الاردن وقيام الحروب في محيطه، تدفق اللاجئون عليه من كل صوب وحدب، وبنيت لهم المخيمات ليعيشوا عيشا كريما بين اخوانهم الاردنيين، على امل ان تكون ازمة قصيرة عابرة، الا ان بقائهم قد طال لتأخر حل قضيتهم، مما خلق في الاردن اليوم ازمات معقدة ومركبة ولا يجرؤ احد على الاقتراب منها، فنشئت ازمة المياه اولا، فالطبيعة الاردنية تاتي بكمية محددة من الامطار سنويا، وهي تكفي لسكانها مع تزايدهم الطبيعي، ولكنها لا تكفي للملايين العابرين للحدود والمستقرين على اراضيه، من هنا نشأت معضلة المياه التي لا حل لها، مهما قمنا بتحلية المياه وحفر الابار، فستبقى معضلة دائمة.
اما الزحام، فقد كان مقدر للمدينة الاردنية ان تنمو بشكل طبيعي، بحيث تتوسع الشوارع وفق الحاجة، وتبنى الاحياء على مدى عشرات السنين، الا ان تدفق البشر غير المحدود على الاردن وسياسة التجنيس للمستثمرين واللاجئين والمضطرين جعل من المدينة الاردنية حالة غير طبيعية في النمو بحيث ان الاردن كان قبل عشرين عاما اربعة ملايين نسمة، واليوم اصبحت عمان لوحدها اربعة ونصف ملايين نسمة، فلا حل لمشكلة الزحام ولا معضلة السير، مهما بنينا جسور وانفاق وشوارع وطرق اضافية.
اما البطالة والعمل، فكان مقدر لسكان الاردن الاربعة ملايين قبل عشرين عاما، ان يزيدوا بمعدل بطيء يستوعبه القطاع الخاص والقطاع العام، الا ان عدد البشر الذين يسكنون الاردن اليوم لا تستطيع اي حكومة ان تجد لهم حلا، او توظيفا، وهذا انعكس على 2 مليون و600 الف طالب مدرسة، (عدد طلاب المدارس اليوم)، فمهما بنينا من مدارس وصفوف اضافية لن نستطيع تأمين العدد اللازم لهذا الجيش الصغير من الطلاب بما يكفيهم من حاجيتهم التربوية والتعليمية والمرافق والمدرسين، مع مساعدة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي تقدم العديد من المدارس.
اذن، نحن نرث معضلات كبرى في الاردن لا حل لها، اما ما تقوم به الحكومات المتعاقبة من تحديث سياسي، وتحديث اقتصادي، وترشيق للقطاع العام، واحالة الى التقاعد، وتعيينات جديدة، واحزاب ومؤتمرات متلفزة، ما هي الا مكياج لتحسين شكل المعضلات الاردنية، وتمديد امد الازمات.
ما لم يجرؤ الاردن على الدخول في حقيقة المضلات واسبابها، وكيفيه التخلص منها، من غير هندسة او تلميع، فسيبقى الاردن يدور في حلقة مفرغة، وستتعاقب الحكومات ذات الازمات، وستتناوب مجالس النواب والتعديلات الوزراية والمؤتمرات والتصريحات الحكومية بكلام حشو لا فائدة منه الا شراء الوقت لتتعاظم الازمات، وعندها سيكون الاردن امام مأزق حاد لا رجعة فيه. حمى الله الاردن وقيادته وشعبه الطيبين.