في قاعة هادئة من متحف اللوفر تتدلى لوحة لا تسمح لعينيك بالمرور عابرا. رجل يجلس أمام رقعة شطرنج والشيطان في الجهة المقابلة بملامح واثقة وابتسامة باردة. تفاصيلها دقيقة إلى حد موجع، العرق يتصبب من جبين الإنسان، عينيه غارقتان في العجز، والقطع مبعثرة على الرقعة توحي بأن النهاية قريبة جدا. المشهد كله يهمس، لا خلاص، لا طريق.
لكن حين يطيل المرء النظر يبدأ الشك بالتسلل. هل حقا انتهت اللعبة؟ هل هذه الرقعة الصغيرة تختزل مصير الإنسان كله؟ هناك في زاوية شبه منسية قطعة صغيرة تكاد لا تُرى، قادرة على أن تفتح ثغرة، أن تربك الشيطان، أن تغيّر مصيرا بدا محسومًا. وكأن الرسام تعمد أن يتركها كإشارة للعين التي تجرؤ على التحديق أكثر من اللازم.
هذه اللوحة ليست عن شطرنج. إنها عن الحياة نفسها. عن ذلك الإحساس الذي يخنقنا أحيانا بأن كل الأبواب مغلقة، وكل الطرق مسدودة، وأننا بلا خيارات. لكن كما في اللوحة يظل هناك هامش صغير، هش وغير مرئي، يترك لنا فرصة أخيرة لقلب المعادلة.
كم مرة وجدت نفسي جالسا مكان ذلك الرجل، أراقب ما تبقى من قطع حياتي وأقتنع أن الهزيمة واقعة لا محالة؟ كم مرة بدا الأفق ضيقا إلى حد العدم؟ ومع ذلك كان ثمة صوت خافت في داخلي يذكرني أن المشهد لم يكتمل بعد، وأن الحركة الأخيرة لا يقررها الشيطان وحده.
ربما هذه هي المعجزة التي خبأها الفنان بين ضربات فرشاته، أن يترك للإنسان نافذة ليتذكر أن النهاية ليست لوحة معلقة على جدار، بل إمكانية قابلة للتأويل. وأن اليأس مهما اشتد لا يلغي وجود حركة صغيرة قد تفتح للضوء فجوة.
لهذا لا أرى اللوحة إعلانا للهزيمة بل درسا في البقاء. ليست عن رجل خاسر بل عن إنسان لم يكتشف بعد أنه ما زال يملك خطوة تكفي ليقول للشيطان لن تنتصر. أعرف أن سر الحياة ليس في وفرة الطرق، بل في الإرادة التي تحول أصغر تفصيلة إلى خلاص. في اللوحة القطعة الصغيرة تكفي. وفي الحياة الشرارة البسيطة، الفكرة الخاطفة، الإيمان الخافت، تكفي لتقلب كل شيء.
إنني أتعلم من هذه اللوحة أن الضيق لا يعني النهاية، وأن الحصار قد يكون بداية الاتساع. أن ما يبدو جدارا مسدودا قد يخفي وراءه نافذة لم تفتح بعد. وأن الشيطان بكل ما يرمز إليه من يأس وخوف ليس سوى متفرج آخر حين أقرر أن أتحرك.
هي ليست مجرد لوحة في اللوفر. إنها حياة بأكملها، تختزل حقيقة أننا لم نخلق لنهزم بل لنقاوم ونكتشف أن النهاية لم تكتب بعد. الهزيمة وهم والمقاومة قدر. وهل لنا إلا أن نقاوم.