العشيرة بين الإرث والحداثة
د. بركات النمر العبادي
30-09-2025 10:55 AM
* نحو إعادة تعريف البنية التكوينية للمستشارية العشائرية في إطار / قيمي / اجتماعي /وقانوني
يمرّ الأردن بلحظة تاريخية فارقة ، مع انطلاق مشروع التحديث الشامل الذي يقوده جلالة الملك عبدالله الثاني ، وفي قلب هذا التحوّل ، تتضح الحاجة إلى إعادة النظر في وظائف مؤسسات الدولة وأدواتها ، بما يتجاوز الشكل إلى الجوهر، وبما يجعلها أكثر التصاقًا بمسار المستقبل ، ومن بين هذه المؤسسات ، تتبدّى البنية العشائرية – بما تحمله من إرث عريق وتجربة متجذّرة – في مفترق طرق يستوجب إعادة صياغة دورها ، لا باعتبارها جهازًا بروتوكوليًا ، بل كرافعة استراتيجية للتنمية والاستقرار، منسجمة مع الرؤية الملكية للتحديث والإصلاح.
من الإرث الاجتماعي إلى الأفق الوطني
لقد ارتبطت ادارة البنية التكوينية العشائرية (المستشارية العشائرية) تاريخيًا بالديوان الملكي الهاشمي ، فكانت جسرًا للتواصل بين الدولة والمجتمع ، وأداة فاعلة في فض النزاعات وصون الاستقرار وحماية النسيج الوطني ، ولم تكن العشيرة مجرد رابطة نسبية ، بل حاملة لقيم التكافل والمسؤولية والانتماء، وأداة للضبط الاجتماعي أسهمت في حماية الأمن المجتمعي وترسيخ الانتماء الوطني .
غير أن الزمن لم يتوقف ، والتحديات الراهنة – بما تحمله من تحولات اجتماعية وتعقيدات سياسية ومظاهر سلبية – تفرض تجاوز الدور التقليدي ، وإعادة تعريف الوظيفة الحقيقية للعشيرة بحيث تصبح عنصرًا فاعلًا في منظومة الدولة الحديثة ، يوازي بين الشرعية التاريخية والفاعلية المؤسسية.
ان إعادة تعريف دور البنية التكوينية العشائرية يتطلب رؤية فلسفية–قانونية ، تضع العشيرة في موقعها الطبيعي كقوة مجتمعية أخلاقية تسهم في مشروع الدولة ، وذلك عبر:
1. إعداد خطة استراتيجية وطنية
• صياغة رؤية وأهداف واضحة للبنية العشائرية (المستشارية).
• وضع مؤشرات أداء قابلة للقياس.
• التكامل مع سياسات الدولة ومؤسساتها.
2. ترسيخ القيادة القيمية
• استعادة مفهوم الزعامة الأصيلة القائمة على الحكمة والرصيد الأخلاقي.
• التصدي لظاهرة تغليب البعد المادي على القيمي في منح المكانة والوجاهة.
• تعزيز البعد الأخلاقي والاجتماعي في اختيار ممثلي العشائر.
3. مواجهة الظواهر السلبية عبر القوة المجتمعية
• الحد من انتشار المخدرات ، جرائم السلاح والعنف المجتمعي.
• ترسيخ سيادة القانون عبر التأثير الاجتماعي الإيجابي.
• حماية السلم الأهلي من التهديدات المجتمعية.
4. إطلاق مبادرات قيمية–اجتماعية
• مبادرة "عشيرة بلا مخدرات".
• مجالس قيمية دورية لمعالجة قضايا العنف الأسري.
• مبادرات شبابية للتعليم والبيئة ومقاومة الامية خاصة بين الاناث والعمل التطوعي.
• مبادرة "نحو مساعدة الشباب على الزواج" عبر صناديق دعم مجتمعية وتشجيع ثقافة التيسير.
5. تحديث أدوات التواصل والانفتاح على المجتمع المدني
• تفعيل منصات إلكترونية عصرية للتفاعل المجتمعي.
• تشكيل فرق ميدانية للتواصل المباشر.
• شراكات مع الجامعات ومؤسسات المجتمع المدني.
• برامج إعلامية تُبرز الدور الوطني للعشيرة.
وختاما ليست العشيرة مجرد بُنية اجتماعية تقليدية ، بل هي امتداد لوعي جمعي متجذر في تاريخ المكان والإنسان ، فهي تمثل الذاكرة الحيّة للانتماء ، ومرآة للقيم التي حفظت المجتمع في لحظات ضعفه ، وحمت الدولة في مراحل تشكّلها الأولى.
غير أن القيمة الحقيقية للعشيرة لا تُختزل في تكرار الماضي ، بل في قدرتها على إعادة إنتاج ذاتها في ضوء تحولات الحاضر، لتصبح رافعة نحو المستقبل ، فالعشيرة التي كانت يومًا أداة حماية وبقاء ، يمكن أن تتحول اليوم إلى أداة بناء وتنمية ، حين تتحرر من ثقل الشكل وتستعيد جوهرها القيمي.
إن إعادة تعريف الدور التكويني للعشائر هو في جوهره فعل فلسفي–اجتماعي ، يسعى إلى المزاوجة بين الإرث والحداثة ، بين الانتماء والحرية ، بين القانون والوعي الأخلاقي ، فحين تلتقي هذه الثنائيات في فضاء الدولة الحديثة ، يتحقق التوازن المطلوب : دولة قوية وعشيرة حاضنة ، مواطنة راسخة وهوية متجددة.
وبهذا المعنى ، فإن مشروع تفعيل العشيرة ليس مجرد إصلاح إداري ، بل هو استدعاء لإرادة وجودية : أن نُعيد ترتيب علاقتنا بذواتنا ، وأن نرتقي بالانتماء من دائرة العصبية الضيقة إلى أفق المشاركة الواعية في بناء وطن يتسع للجميع ، و يعظم من شأن الهوية الوطنية وينخرط في تحصينها ويجعل الولاءات الفرعية بلون الهوية الوطنية وتسهم في تحصينها ولا تتوازى معها .
حمى الله الوطن وسدد على طريق الحق خطى قيادته وشعبه