بين مانشستر وغزة .. بريطانيا على حافة التحول السياسي
د. سعيد المومني
03-10-2025 03:48 PM
بريطانيا تقف اليوم عند مفترق حاسم. فبعد عامين من المظاهرات العارمة التي ملأت شوارع لندن وبرمنغهام ومانشستر دعماً لغزة ورفضاً للحرب الإسرائيلية، تأتي حادثة الهجوم على كنيس يهودي في مانشستر على يد شاب سوري الأصل لتصب الزيت على نار مشهد متوتر أصلاً. ليس لأنها مجرد جريمة عنف في بلد عرف الإرهاب في محطات سابقة، بل لأنها تقع في قلب معركة هوية تدور منذ سنوات: من هو البريطاني؟ وما حدود التعايش في بلد يتصارع فيه خطاب التعددية مع موجات قومية شعبوية متصاعدة؟
من غزة الى مانشستر .. مفارقة اللحظة
في العامين الماضيين، لعبت المظاهرات المؤيدة لغزة دوراً مزدوجاً: فهي منحت المهاجرين والمسلمين موقعاً أخلاقياً في قلب المشهد السياسي البريطاني، وذكّرت الشارع بأن التعاطف مع الضحية ليس حكراً على الغرب. لكن حادثة كنيس مانشستر تهدد بقلب هذه الصورة رأساً على عقب. القوى اليمينية ستجد فرصة ذهبية لتقول: ألم نقل لكم إن مظاهرات غزة لم تكن سوى غطاء لكراهية اليهود؟. هكذا تتحول موجات التضامن إلى عبء سياسي، وتنتقل من كونها دليلاً على الوعي الأخلاقي للشعب البريطاني إلى قرينة ضد المهاجرين وفرصة لإعادة كتابة الرواية: من "متضامن مع الضحايا" إلى "خطر داخلي محتمل".
التاريخ يكرر نفسه
التاريخ البريطاني الحديث يقدم مثالاً صارخاً، تفجيرات لندن في 7 يوليو 2005. لم تكن تلك الهجمات مجرد عمل إرهابي، بل لحظة مفصلية أعادت صياغة علاقة الدولة بجالياتها المسلمة، ودفعت باتجاه تشريعات أمنية مشددة، ورسّخت خطاب "الخطر الداخلي"، تلك اللحظة شكّلت السياسة البريطانية لعقد كامل. حادثة مانشستر اليوم تحمل إمكانية مماثلة لإعادة رسم حدود الثقة بين الدولة والمجتمع، بين المواطن والجالية، وبين التضامن الإنساني والخوف من الآخر.
الأحزاب بين مأزق الأخلاق والسياسة
إنعكاسات الحادث على المشهد الحزبي لا تقل خطورة وهي ليست نظرية بحته بل انها ملموسة. المحافظون؛ المتراجعون في استطلاعات الرأي، سيحاولون ركوب الموجة عبر مزيد من التشدد في قوانين الهجرة واللجوء. لكن هذه الاستراتيجية تعكس أزمة أعمق؛ مطاردة خطاب اليمين الشعبوي بدل مواجهته سياسياً.
أما العمال يجدون أنفسهم أمام معضلة أخلاقية، إذا دافعوا عن المهاجرين فقد يخسرون جزءاً من الطبقة الوسطى الخائفة، وإذا انجرفوا نحو التشدد فسيفقدون قاعدتهم التقدمية التي شكّلت روح الحزب في عهد كوربين.
حزب كوربين الجديد (Your Party)، الذي ينطلق بزخم لافت من رحم المعارضة لحرب غزة، قد يكون الأكثر عرضة للضرر. فالحادث يوفر ذخيرة خصومه لتصويره كصوت متسامح مع "التطرف والارهاب"، ويضعف جاذبيته كبديل أخلاقي.
أما اليمين الشعبوي المتمثل في أحزاب مثل (Reform UK) فهو المستفيد الأكبر. يملك خطاباً جاهزاً: "لقد حذرناكم من الهجرة، وها هو الدليل". الحادثة ستتحول إلى شعار انتخابي، وربما إلى رافعة انتخابية غير مسبوقة.
ظلال ترامب عبر الأطلسي
المفارقة أن هذا الخطاب لا يعيش في فراغ بريطاني فقط. قبل أسابيع، هاجم دونالد ترامب رئيس بلدية لندن المسلم في الأمم المتحدة، متهماً بريطانيا وأوروبا بأنهما تخضعان لـ"الشريعة الإسلامية". اليوم، يجد اليمين البريطاني في هذا الخطاب الأميركي غطاءً شرعياً دولياًً، ليس مجرد رأي محلي متشدد، بل جزء من مزاج عالمي يتخطى حدود بريطانيا ويجد صدى في أكبر الديمقراطيات الغربية.
بريطانيا والمسرّع الأوروبي
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يفرغها من وزنها الرمزي والسياسي. الإعلام والثقافة البريطانية، إلى جانب مكانتها كدولة مؤثرة عالمياً، تجعل أي انزلاق نحو يمين قوموي شعبوي أكثر من شأنه أن يكون له صدى في باريس وبرلين وروما. بريطانيا اليوم ليست مجرد بلد يختبر نفسه داخلياً، بل منصة محتملة لإعادة تشكيل المزاج السياسي الأوروبي بأسره، عبر تقديم نموذج يُحتذى به أو يُخشى من تقليده.
أكثر من جريمة فردية
حادثة مانشستر ليست مجرد جريمة على أرض بريطانية، بل اختبار عميق لمستقبل البلاد؛ لمكانة المسلمين في المجتمع البريطاني، ولمستقبل الأحزاب بين الأخلاق والبراغماتية، ولوزن بريطانيا كفاعل قد يحدد اتجاه الرياح في أوروبا كلها.
بين غزة ومانشستر، بين شوارع التضامن ومشاهد العنف، تُكتب الآن صفحة جديدة في السياسة البريطانية. إما أن تكون محطة تعيد إنتاج 7/7، أو لحظة انزلاق أعمق نحو يمين شعبوي يعيد تعريف بريطانيا، وربما أوروبا، لعقود مقبلة.