facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




صناعة المعنى


د. كفاية عبدالله
03-10-2025 04:04 PM

في عالم المؤسسات ، تغرق القوانين والإجراءات في دوامة من الأرقام والمؤشرات، فننسى أن وراء كل رقم حياة، وأن وراء كل إجراء إنسان. كثيرًا ما تتحول لوحات القياس إلى مرايا مزخرفة: تظهر كل شيء، وتقيس كل شيء، لكنها تفشل في كشف الجوهر الذي نصبو إليه، وتحررنا من المعنى الحقيقي. وفي محاولاتنا المتكررة لقياس كل شيء في سياق العمل لتحسين أداء المؤسسات، نفقد البوصلة؛ فنحسب ما يمكن قياسه بسهولة، بينما يغيب عن أعيننا ما لا يمكن قياسه: السعادة، الثقة، الأمل، وإحساس المواطن بأن خدماته وحاجاته ليست مجرد خانة في نموذج، بل جزء من تجربة حياتية تستحق الاهتمام.

المعنى الحقيقي لا يأتي من التراكم الرقمي أو من تنفيذ الإجراءات في ظل دوامة الروتين الجامد. يولد المعنى حين يدرك الموظف عظم المسؤولية التي يحملها على عاتقه، ويحرص على أن يصنع فرقًا ويترك أثرًا ملموسًا في حياة الناس، حين يتحول الروتين إلى تجربة حية، وتتحول الخدمة من إجراءات تنفيذية إلى تجربة حياة كريمة. يصبح كل إنجاز خطوة نحو حياة أفضل، تُحيي القيم الإنسانية، وكل خدمة جسرًا للثقة تزرع في نفوس الناس شعورًا بأن القادم أفضل.

الموظف الذي يدرك أن عمله ليس مجرد خانة في نموذج أو رقم مجرد في مؤشر أصم، بل هو رسالة عظمى لتحقيق أثر حقيقي، تصبح كل خدمة حينها نبراسًا للثقة، وكل إنجاز خطوة نحو حياة أفضل للمواطن، ورشاقة للحياة نفسها، وحيوية لتأكيد أن للحياة ما يستحق أن نعيش من أجله.

ومكمن الداء في التركيز على الأشياء بدلًا من الأفكار، وفي تتبع الإجراءات دون مراقبة الأثر. كثير من المؤسسات تختزل نجاحها في تنفيذ الإجراءات، وتغفل القيمة الإنسانية لما تنتجه. الأرقام وحدها، مهما كانت دقيقة، لا تحكي قصة الإنسان كاملة. فهي تخفي في تفاصيلها كثيرًا من نقاط الألم غير الواضحة، في محاولة حصر كل شيء في لوحة قياس، خاصة في سياق الخدمة العامة، كأنها كتاب مقدس لا يحتمل الخطأ، ومنزه عن سوء التأويل. وكأننا نعيد الكرة مرة بعد أخرى في محاولة الإمساك بالهواء بأصابعنا؛ يبدو أننا نمتلكه، نعم، أننا نحكمه، لكنه يهرب من بين أيدينا كلما حاولنا إحكام قبضته. نحن بذلك نرهق الموظف، فيفرغ من الهدف، وتملأ أوقات دوامه إجراءات بعيدة عن تحقيق الغايات. نخاطر بأن نصبح مجرد منفذين للروتين، لا صانعي أثر؛ تُختزل الجهود إلى مؤشرات جامدة أو غامضة لا يفقه المواطن مدلولاتها حين طرق أبواب الخدمات العامة، حيث تستقبله لوائح التعليمات والتشريعات الناظمة، ويغادر محملاً بأرقام مجردة، غير قادر على إدراك لغة القانون أو رياضيات الأرقام.

الحل يبدأ من الإنسان: هو محور التغيير ومرشدنا لفهم الاحتياجات وتحويل الخدمات إلى تجارب ذات قيمة. صناعة المعنى ليست وصفة جاهزة، ولا وظيفة محددة بزمن ومكان، بل عملية مستمرة من الإبداع والتجربة والخطأ والصواب، من التفاعل الحي مع الناس والواقع. كل إجراء يُعاد التفكير فيه ليس كعملية تنفيذية بحتة، بل كقصة حياة تُحكى للمجتمع، كفرصة لصنع أثر، لتعزيز الثقة، ولإحياء الإنسان في قلب كل تجربة حكومية.

وهنا يظهر دور القائد الحكيم الذي يزرع في فرق العمل القدرة على رؤية ما هو أبعد من الأرقام. القيادة ليست مجرد إصدار تعليمات أو متابعة المؤشرات، بل نقل الفريق من الانشغال بما يمكن قياسه إلى الاهتمام بما يستحق القياس. القائد الحكيم يحمل موظفيه إلى رؤية أوسع، لرؤية أثر العمل في حياة الناس، وللاصبر في مواجهة النتائج الفورية، وللاحترام الكامل لمبدأ النفس الطويل في صناعة القيمة. العمل ليس تنفيذًا لإجراءات، بل صناعة قيمة مستدامة للأجيال المتعاقبة، بما يحدث فرقًا حقيقيًا، ويترك أثرًا يسجل في سطور التاريخ.

الموظف الذي يدرك أنه جزء من مشروع أكبر من نفسه يكتشف طعمًا أجمل للعمل، ويشعر بالانتماء والاعتزاز. حين نضع المواطن في قلب كل تجربة، وتصبح كل خدمة فرصة لصناعة الثقة والرضا، ويشعر الموظف أن جهوده لا تضيع في تنفيذ روتين بارد، بل تصنع معنى ورفعة للإنسانية، تتحول المؤسسات الحكومية من آلات بيروقراطية إلى مختبرات للحياة، مختبرات يصنع فيها المعنى يوميًا ويُبنى عليه المستقبل. هنا يصبح العمل ليس مجرد وظيفة، بل رسالة؛ إنها ليست مجرد خدمة، بل تأثير. يكتشف الجميع – موظفين ومواطنين – طعمًا أجمل لإنجاز ما يستحق أن نحياه.

صناعة المعنى تعني أن نتوقف عن العيش على هامش الحياة، عن الركون إلى الروتين والإجراءات الجامدة، وأن ندرك أن التاريخ يسجل ويصنّف مواقعنا، وليس لمواقعنا أن تصنفنا. المعنى هو ما نتركه للإنسان والمجتمع، هو أثرنا الحي، هو القيمة التي تزرع في كل حياة نخدمها، في كل تجربة نصنعها، وفي كل خطوة نحو مستقبل أفضل نخطوها.

إنها دعوة للعودة إلى ما هو إنساني بعيدًا عن كل ما هو اصطناعي أو مصطنع: احترام إنسانية الإنسان، وتقديره، واحتضان المعرفة والخبرة واستخدامها لإحداث التغير الملموس والمستدام، وتحويل كل إجراء إلى تجربة تستحق التقدير، وكل خدمة إلى قصة قيمة تروى للأجيال. الانتقال بكل موظف عام إلى صانع أثر وباني وطن. حين ننجح في ذلك، نصنع معنى لا يمكن اختزاله في لوحة قياس، بل يعيش في تجربة الإنسان وذاكرة الشعوب، حيث يكون الوطن في المقام الأول، ويشعر الموظف أن العمل ليس مجرد واجب، بل رسالة حية، وأنه جزء من مشروع أكبر من الفرد، مشروع يُحيي الإنسانية ويجعل كل لحظة في الخدمة العامة فرصة لصناعة قيمة حقيقية وراسخة، ندرك فيها أن في الحياة ما يستحق أن نناضل من أجله.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :