جيل بِلا ذاكرة .. التكنولوجيا تسرِق الطّفولة
د. لينا جزراوي
04-10-2025 11:34 AM
لم يعد خطر السوشيال ميديا والتطبيقات الذكية مجرد جدل بين المتفائلين والمتشائمين، بل أصبح واقعًا نعيشه يوميًا مع أبنائنا. أطفال اليوم يدخلون عالم الأجهزة قبل أن يكتمل وعيهم، وأهالٍ كثيرون –للأسف– يسلمون هذه الأدوات لأبنائهم بطيب خاطر، وكأنها ألعاب بريئة، غير مدركين أنها قد تُضعف شخصية الطفل، وتفكك قدراته العقلية، وتنتزع منه أهم ما يحتاجه ليواجه الحياة: التفكير والتحليل والإبداع.
انظروا حولكم، وستجدون أن الطفل المدمن على الألعاب الإلكترونية والهواتف الذكية صار عاجزًا عن التواصل الحقيقي، ضعيفًا في اللغة، مرتبكًا في التعبير عن مشاعره، فاقدًا لشغف البحث والاكتشاف. جيل كامل يتكوّن اليوم على عتبات الشاشات، جيل قد لا يستطيع المنافسة في المستقبل، لأنه تعوّد أن تأتيه الأجوبة جاهزة، لا أن يسعى إليها بعقله وجهده.
ما يزيد المرارة أن طلاب الجامعات أنفسهم باتوا يعتمدون اعتمادًا شبه كامل على التطبيقات والذكاء الاصطناعي، دون بذل أي مجهود في الاطلاع على الكتب أو المصادر الموثوقة. نحن أمام عقل يتراجع تدريجيًا لأن أجزاءه لم تعد تُستخدم كما ينبغي، حتى الكبار منّا يشتكون من ضعف ذاكرتهم اليوم، ويتحسّرون على زمن كانوا يحفظون فيه أرقام الهواتف والتواريخ والمواعيد بلا عناء.
الأخطر من ذلك أن المجتمعات التي اخترعت هذه التكنولوجيا أقل تضررًا منا، لأنها أوجدت ثقافة خاصة بالاستخدام، بينما اكتفينا نحن بالدور الأسهل. الاستهلاك بلا وعي ولا ضوابط. السويد مثلًا، عادت مؤخرًا إلى الكتاب والدفتر والسبورة التقليدية بعد أن كشفت دراسات رسمية أن تحصيل طلابها في الرياضيات والعلوم واللغات يتراجع مع الاعتماد المفرط على الأجهزة. إذا كانت دولة متقدمة مثل السويد قد أطلقت جرس الإنذار، فكيف نغضّ نحن الطرف عن هذا الخطر؟
إنها مسؤوليتنا جميعًا –أولياء أمور، ومعلّمين، وأكاديميين، ومجتمعًا بأكمله– أن نعيد التوازن إلى حياة أبنائنا. التكنولوجيا أداة عظيمة إذا أحسنّا توظيفها، لكنها كارثة إذا تحوّلت إلى بديل عن التفكير، والقراءة، والتجربة الحياتية. نحن بحاجة إلى أن نزرع في أبنائنا حب الكتاب، ونشجعهم على الحوار والتواصل المباشر، ونضع حدودًا واضحة لاستخدام الأجهزة.
إن جرس الإنذار قد دقّ بالفعل، والوقت ليس في صالحنا. إذا لم نتدارك الأمر اليوم، فسنصحو غدًا على جيل هشّ لا يملك أدوات المنافسة في عالم يزداد تعقيدًا كل يوم. حماية أبنائنا ليست خيارًا، بل واجب أخلاقي وتربوي وحضاري. فلنمنحهم التكنولوجيا بوعي، ولنمنحهم قبلها حياةً مليئة بالقراءة، والتجربة، والحوار، حتى نضمن أن يكونوا جيلًا قادرًا على البناء، لا مجرد مستهلك تائه في عالم الشاشات.
* رئيسة الجمعية الفلسفية الاردنيّة