الأردن في مواجهة العنف الرمزي
د. بركات النمر العبادي
06-10-2025 10:48 AM
معركة الوعي الوطني قبل معركة الوعي الجغرافي ، ففي عالم تتسارع فيه التحوّلات وتتعاظم فيه التحديات ، لم تعد الحروب تُخاض بالسلاح فقط ، بل باتت أدواتها الجديدة أكثر خفاءً وتخفيا ، وأكثر فتكًا و ايلاما ، ومن بين هذه الأدوات ، يبرز العنف الرمزي بوصفه سلاحًا ناعمًا يتسلل بلا ضجيج ، ويتغلغل في الوعي الجمعي دونما ضوضاء ، حاملاً في طياته سرديات مشككة ، وهجمات مموّهة ، وأقنعة مزيفة تُظهر النقد وتُخفي النَيل ، تُبدي الحرص وتُضمر الهدم.
الأردن ، هذا الوطن الذي لطالما واجه التحديات بتماسكه المجتمعي ورشاقة قراره ، لم يكن بمنأى عن هذا النوع من العنف ، فكلما أبدى استقلالًا في قراراته ، أو تماسُكًا في مواقفه ، انطلقت حملات مشبوهة في فضاءات الإعلام ومنصات التواصل ، لا لتنتقد ، بل لتُقوّض ، لا لتسائل ، بل لتُضعف الثقة وتشوّه الرموز ، تُهاجم تحت لافتة الحرية ، وتُمعن في السخرية باسم الشفافية ، وتزرع الشك باسم التقييم ، وليست المعركة هنا على الأرض ولا في حدود الدولة ، بل في فضاء الوعي ذاته ، هي معركة تهدف إلى سحب الثقة ، وتحطيم المعنويات ، وزرع التردّد بدل الإيمان ، والتشكيك بدل الولاء ، والنتيجة : شعب تائه بين حقيقة مشوّهة وزيف متقن.
مواجهة هذا العنف الرمزي لا تكون بالصمت ولا بالردود الانفعالية ، بل تبدأ بتسميته باسمه ، وبكشف آلياته ، وتفكيك خطابه المضلِّل، على ان تبدأ بإعلام وطني تفسيري ، يُعيد للخبر معناه ، ويكشف المسكوت عنه في خلفياته ، ويأخذ بزمام المبادرة في تشكيل السردية الوطنية لا الاكتفاء باستهلاكها ، كما تتطلب المعركة حضورًا فاعلًا للنخبة الثقافية والفكرية ، التي عليها أن تنزل من برجها العاجي إلى ساحة الوعي العام ، لتساهم في بناء خطاب نقديّ وبديل ، يُحصّن العقول من الاختراق ، ويُعيد الثقة دون تسطيح ، ويؤمن بالحقيقة دون الارتهان للضجيج.
إن أخطر ما في العنف الرمزي أنه لا يُهزم بلغة الشعارات ، بل بتحصين الوعي ذاته ، وببناء عقل جمعيّ يميّز بين النقد والتقويض ، بين التعبير والتشويه ، هي معركة لا تُكسب في ساحات السياسة فقط، بل في عمق الإدراك ، وفي تفاصيل الحياة اليومية ، وفي الطريقة التي نرى بها وطننا ونفهم بها ذاتنا.
الأردن اليوم بحاجة إلى وقفة واعية أمام هذا المدّ الرمزي ، ليس دفاعًا عن دولة فقط ، بل دفاعًا عن معنى الوطن ذاته ، عن صورته في وجدان أهله ، وعن سرديته التي تُكتب كل يوم ، إمّا بأيدينا ، أو بأيدي من يسعون لطمسه . وفي الختامً ، إن الهوية الوطنية الأردنية هي مشروع يمتلك مقومات الحيّاة ، و متجدد ، يتطلب وعياً سياسياً ناضجاً ، وفكراً مؤسسياً متماسكاً ، وإرادة شعبية مخلصة : فلا نهضة بدون هوية ، ولا سيادة بدون انتماء ، ولا بناء لمستقبل آمن دون صيانة الجبهة الداخلية ، وسيبقى الأردن ، كما عهدناه ، وطن العزة والمنعة ، متجذرًا في تاريخه ، متطلعًا لمستقبله ، ثابتًا على قيمه ، وعصيًا على الانكسار، في مواجهة العنف الرمزي ، وغييره من انواع العدوان.
حمى الله الاردن و سدد على طريق الحق خطى قيادته وشعبه