facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




حتى لا نُلدغ أكثر من مرة


د. ماجد الصمادي
07-10-2025 10:40 PM

بعد كل ما جرى، نحن بحاجة ماسّة إلى مراجعة جادة ونقد موضوعي للتجربة ، يعيد قراءة الجذور، ويفكك الدوافع، ويقف على النجاحات والإخفاقات بمنهجية تتجاوز الانفعالات وردود الأفعال. لا مكان اليوم لثنائية التقديس والتخوين، بل لا بد من عينٍ تبصر الواقع بعقل المسؤولية لا عاطفة الانتماء.

لقد كشفت التجربة أن كثيرًا من الحركات التي خاضت غمار السياسة، فعلت ذلك دون امتلاك رؤية استراتيجية متكاملة لإدارة الدولة أو تصور ناضج لمفهوم الحكم. بقي الخطاب دعويًا وعاطفيًا، ولم يتطور إلى خطاب سياسي قادر على مخاطبة الدولة الحديثة ومؤسساتها. وكأن الانتقال من المنبر إلى البرلمان جرى من غير وعي بحجم التحول المطلوب في الفكر والأداء.

كان هناك انفصال واضح بين الفكرة والواقع، وعجز عن قراءة السياقات الاجتماعية والتاريخية المعاصرة. البعض تصرّف وكأنه بصدد إعادة إحياء نموذج "الخلافة" في بيئة لا تمت لذلك النموذج بصلة، متجاهلًا تعقيدات الدولة الحديثة ومراحل تشكّلها الطويلة، ومتصورًا أن الحُكم يمكن أن يُعاد تأسيسه على أسس مثالية بحتة في واقع شديد التعقيد.

لقد غاب عن الكثيرين أن التمكين لا يكون بالدعاء وحده أو بحماسة الجماهير، بل بالمراكمة الهادئة: بناء الإنسان، وترسيخ الوعي، وتشكيل المؤسسات. فالسلطة ليست هدفًا في ذاتها، بل وسيلة ضمن منظومة حضارية أوسع تتطلب إصلاحًا ثقافيًا واجتماعيًا مواكبًا.

التسرّع كان سمة غالبة، حيث اندفعت بعض الحركات نحو الحكم دون إعداد الأرضية اللازمة: لا مؤسسات مجتمع مدني راسخة، ولا قاعدة اجتماعية متينة، ولا مشروع قانوني أو دستوري متكامل. تم الاتكاء على أدوات تقليدية: المساجد، الجمعيات، المؤسسات الخيرية والتعليمية، وهي وإن كانت ذات دور مهم، إلا أنها ظلت تدار بعقلية مغلقة لا برؤية دولة.

وعندما تحقق لبعضها الوصول إلى السلطة، سرعان ما ظهرت هشاشتها في إدارة ملفات الدولة المعقدة، لا سيما الاقتصاد، والإدارة، والعلاقات الخارجية. ثم دخلت في صراع مباشر وغير محسوب مع مؤسسات الدولة العميقة، وفشلت في فهم موازين القوى، فكانت النتيجة انهيارات متسارعة في بعض التجارب، أو خيارات كارثية أودت بحياة المجتمعات، بدلًا من حمايتها.

الدول التي نهضت لم تبدأ بالصراع على الحكم، بل بدأت ببناء الوعي، وإصلاح التعليم، وتطوير المجتمع، بوصفها مدخلات ضرورية لعلاج الاستبداد وتحقيق الحريات. فالتغيير الحقيقي لا يتم من القمة، بل من القاعدة، عبر مشروع إصلاحي متكامل لا يختزل النهضة في معركة سياسية أو انتصار انتخابي.

المطلوب اليوم هو الانتقال من منطق "التنظيم" إلى منطق "المشروع". فالتنظيم بطبيعته مغلق، يدور حول نفسه، ويعيد إنتاج نخبه، أما المشروع فمفتوح، يستوعب الجميع، ويتجه إلى بناء وعي جمعي، وتشكيل هوية سياسية تتسع للتعدد وتؤمن بالشراكة.

لم يعد بالإمكان تأجيل النقاش حول طبيعة الدولة المنشودة. نحن بحاجة إلى دولة مدنية، تستند إلى قيم أخلاقية عليا، وتحترم الإنسان، وتقوم على التعددية والمشاركة، وتحفظ الحقوق والحريات، دون أن تكون نسخة مستنسخة من تجارب الآخرين، بل تعبّر عن خصوصيتنا الحضارية.

الصراع الحقيقي ليس مع مكونات المجتمع، بل مع الفقر، والتخلف، والاستبداد، والجهل، والمرض. وهذه معارك لا تُخاض بالشعارات أو الولاءات الضيقة، بل تُواجه بتحالفات وطنية عريضة، وبرامج شاملة، تستفيد من كل الطاقات والاتجاهات.

نحن أمام لحظة مفصلية تتطلب وقفة مراجعة شجاعة، لا لجلد الذات ولا لتمجيد الماضي، بل لإعادة البناء على أسس أوضح. فالنهضة تبدأ من الوعي، والمشروع، والعمل التراكمي، لا من المنابر ولا من صناديق الاقتراع فقط. وأي تمكين تحقق، سواء نتيجة تحالفات أو ثقة جماهيرية، لا يجب أن يُهدر، بل يُعاد توجيهه ليكون منطلقًا لبناء مشروع حضاري جامع يستوعب الجميع، ويحترم الإنسان، ويؤمن بأن مستقبل الأمة لا يُصنع بالخطب، بل بالعقل .





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :