تحرير الفضاء السياسي .. الأزمة الحقيقية في الأردن
د. سعيد المومني
08-10-2025 10:35 PM
يحاول الأستاذ جميل النمري في مقاله الأخير المنشور في صحيفة الرأي تفسير الركود الحزبي في الأردن على أنه مجرد حالة سكون بسبب ضعف الأداء الحزبي وعدم قدرة الأحزاب على تقديم شيء يختلف عن السابق، ويرى أن مسألة اندماج الأحزاب أو تأسيس ملتقى ديمقراطي ضمن أحزاب اليسار قد تكون أحد الحلول.
لكن الواقع أعمق بكثير، وأكثر وضوحاً إذا أردنا أن نكون صريحين مع أنفسنا: الركود لم يأتِ من تشتت الأحزاب أو خلافاتها الأيديولوجية، بل القانون نفسه هو الذي أفرز هذا الشكل الهش من الأحزاب. قوانين تشكيل الأحزاب وتداخلها مع النظام الانتخابي لم تترك مساحة حقيقية لتطوير الحياة السياسية. فبدلاً من أن تكون الأحزاب أدوات للتغيير، أصبحت محاصرة في أطر شكلية تضيع فيها برامجها وتبقى الحياة السياسية بلا محتوى.
أما اليسار الأردني، فإن سبب خسارته الانتخابات ومشكلته ليست في أن ستة أحزاب لم تتفق على ترتيب قوائمها، كما يشير النمري، بل في تاريخ طويل من التناقضات والسلوك المزدوج. كثير من قياداته ظلوا ينتقدون السلطة ويهاجمون العملية السياسية، ثم يلهثون وراء مناصبها ويصبحون جزءاً منها، ومع تقاعدهم يعودون لينظّروا في العمل اليساري وكأنهم اكتشفوا الالتزام به حديثاً. نتيجة هذا التاريخ السلوكي، لم تفقد الأحزاب اليسارية فقط مصداقيتها، بل تراجعت أصواتها تدريجياً في الانتخابات، كما أن العديد من الشخصيات اليسارية المتميزة اختارت أن تصبح مستقلة أو تبتعد عن العمل الحزبي المنظم، لأنها فقدت الثقة في آلية عمل هذه الأحزاب ووجدت أن البيئة التنظيمية لا تتيح لها التعبير الفعلي عن دورها السياسي. هذه الظاهرة تمثل معطلاً حقيقياً للعمل السياسي المنظم، وتؤكد أن جزءاً من حل الأزمة يكمن في الاعتراف بالأخطاء وإجراء مراجعات حقيقية، لأن المراجعات هي الأساس لإعادة بناء أي مشروع سياسي أو حزبي.
لكن المشكلة الأعمق التي تتكرر في خطاب معظم من يمارسون العمل السياسي، أنهم يتركون جذر الأزمة ويتعلقون بالقشور. بدلاً من مواجهة الحقيقة بأن قانون الانتخاب نفسه هو أصل العطب، يذهبون للحديث عن شكل القوائم وترتيبها وهندسة المقاعد، وكأننا نعالج السطح ونترك الجرح مفتوحاً. هذا بالضبط ما يفعله الأستاذ جميل النمري، وهو الذي كان عضواً في لجنة تحديث المنظومة السياسية. وإذا كنا منصفين وصريحين، فعضويتكم في تلك اللجنة لا تعفيكم من الاعتراف أنكم أخطأتم، بل أخطأتم خطأ جسيماً، لأن هذه هي مخرجاتكم، وهذا هو حصاد عملكم، وهذه هي القوانين التي صغتموها. ومحاولة تلميع المشهد أو ترقيعه الآن ليست إلا امتداداً لخطاب السلطة نفسها، التي من الطبيعي أن تدافع عن مخرجاتها. أما أن يفعل ذلك من يقدّم نفسه ككاتب تقدمي أو يساري، فذلك يُفقد الخطاب مصداقيته ويجعله أقرب إلى تبرير الأزمة بدل مواجهتها.
الجانب الأهم هو أن الشعب نفسه غائب عن هذه الأحزاب. معظم الأحزاب الأردنية اليوم أشبه بنوادٍ للنخبة تتصارع على مقاعد، بينما تُترك قضايا الناس الحقيقية من فقر وبطالة وتعليم وصحة وحريات بلا حامل سياسي حقيقي. كل الحديث عن اندماج أو ائتلاف يظل زخرفة شكلية ما لم تُستعد ثقة الناس، وما لم يُفتح الفضاء السياسي ويُحصن قانونياً ودستورياً.
الحل يبدأ من: تحرير الفضاء السياسي؛ أي حرية تنظيم حقيقية للأحزاب بلا وصاية ولا تدخل، في إطار مظلة قانونية ودستورية تحمي هذا الحق وتحميه من أي عبث أو تقييد. بدون هذا الأساس، ستظل كل محاولات الاندماج أو الائتلاف مجرد زخرفة لمشهد سياسي مأزوم، وستبقى الحياة السياسية جسداً بلا روح.
واليوم يجب أن ندرك أن المسألة ليست مجرد لجان تحديث أو ترقيع للمنظومة السياسية الحالية. ما نحتاجه ليس تعديلات شكلية أو ترقيعات مؤقتة، بل قلب المعادلة السياسية بالكامل، والنظر إلى الأزمة في الأردن بعين وطنية واسعة، مدركة لحجم خطورة المرحلة، ومتجهة نحو بناء فضاء سياسي حقيقي يضمن مشاركة الشعب، ويعيد للحياة السياسية دورها كأداة للإصلاح والتنمية وخدمة الوطن.