facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




العشيرة والدولة في الأردن .. جدلية الذاكرة والحداثة


د. بركات النمر العبادي
09-10-2025 10:24 AM

ليست العشيرة في الأردن مجرد بنية اجتماعية تقليدية ، ولا الدولة مجرد جهاز إداري حديث ، إنهما – في التجربة الأردنية – ثنائية متشابكة ، تعكس في جوهرها صراع الذاكرة مع المستقبل ، وإرادة البقاء مع مشروع التحديث ، فالأردن لم يعرف القطيعة بين الدولة والقبيلة كما في تجارب أخرى ، بل سعى منذ التأسيس إلى صياغة معادلة فريدة : دولة حديثة تتكئ على القبيلة ، وقبيلة تنفتح على الدولة.

فمنذ نشأة الإمارة ، كانت العشيرة الأردنية هي الضامن الأول للتماسك المجتمعي ، وفي لحظات الاضطراب ، كانت شبكة التكافل العشائري تسبق مؤسسات الرعاية الرسمية ، وفي لحظات التهديد ، كانت رابطة الدم والانتماء العشائري تسبق كل حساب آخر ، ولكن قيمة العشيرة لم تتجسد في القرابة وحدها ، بل كحامل اجتماعي للقيم التي حملتها : الكرم ، النجدة ، حماية الضعيف ، والالتزام بالعرف كقانون غير مكتوب ، هذه القيم ، وإن بدت تقليدية ، شكّلت الأرضية التي بُني عليها لاحقًا الوعي الوطني.

والمتأمل لتاريخ الأردن ، يرى أن العشيرة لم تكن مجرد متلقٍّ للسلطة ، بل كانت شريكًا في صناعة الشرعية ، فالعشائر الأردنية كانت أول من منح الولاء للقيادة الهاشمية ، ووقفت معها في لحظات التأسيس والتهديد.

إن العشيرة كفاعل سياسي ، بما تملكه من عمق اجتماعي ، مثلت دائمًا ما يمكن تسميته بـ "الشرعية الموازية" : شرعية المجتمع في مواجهة شرعية الدولة ، غير أن خصوصية التجربة الأردنية تجلت في قدرة القيادة على جمع الشرعيتين في معادلة واحدة ، وهو ما جنّب البلاد صدامًا شهدته دول أخرى في المنطقة.

قد يبدو الحديث عن العشيرة في الاقتصاد أمرًا غير مباشر، لكن حضورها كان قائمًا دائمًا. فالتكافل الاقتصادي ، ومساندة الأسر في التعليم والزواج والأزمات ، شكّل شبكة حماية اجتماعية لها أثر اقتصادي ملموس ، وإلى جانب ذلك ، فإن الثقة المتبادلة داخل البنية العشائرية أسهمت في تحفيز الاستثمارات المحلية والمبادرات الصغيرة ، خصوصًا في المناطق الريفية التي طالما عانت من ضعف الحضور المؤسسي للدولة ، ومن هنا ، فإن العشيرة لا تُقرأ فقط كتراث اجتماعي ، بل أيضًا كإطار اقتصادي غير معلن ساعد على استقرار المجتمع.
في كثير من الدول ، تحولت العلاقة بين الدولة والقبيلة إلى صراع صفري : فإما دولة تلغي القبيلة ، أو قبيلة تنازع الدولة سلطتها ، غير أن الأردن رسم خطًا ثالثًا : دولة لا تلغي القبيلة ، وقبيلة لا تنازع الدولة ، بل تتكامل معها ، بل اعتمدت ثنائية الدولة و القبيلة ، و هذه الجدلية أنتجت صيغة خاصة من الشرعية : الدولة تملك شرعية الدستور والقانون ، والعشيرة تملك شرعية الذاكرة والوجدان ، والنتيجة : نظام سياسي متوازن ، يستمد قوته من مؤسسات حديثة ، ويستند في الوقت ذاته إلى رصيد اجتماعي متجذر.

ان إعادة تعريف العلاقة بين الدولة و القبيلة كثنائية يفرض نفسه بين السطور ، لان المستقبل لا يقبل الجمود ، وإذا كانت العشيرة قد أدت دور الحماية والبقاء في الماضي ، فإن دورها في الحاضر والمستقبل يجب أن يتجه نحو البناء والتنمية.

• في المجال الاجتماعي: تعزيز قيم المواطنة وسيادة القانون، وتحويل التكافل العشائري إلى مؤسسات مجتمع مدني منظمة.

• في المجال السياسي: المشاركة الواعية التي تنسجم مع التحول الحزبي والبرلماني.

• في المجال الاقتصادي: تفعيل شبكات الثقة العشائرية في دعم المشاريع الإنتاجية والتنمية المحلية.

وفي الختام ، إن القبيلة في التجربة الأردنية لم تكن مجرّد بقايا من زمن البداوة ، بل تحوّلت إلى ذاكرة حيّة توازي نصوص الدستور، وجذور ممتدة في تربة الوطن تُغذّي مشروع الدولة الحديثة ، فهي لم تُختزل في العصبية الضيقة ، بل تجاوزت نفسها لتغدو حاملًا للقيم الكلية : الانتماء ، النجدة ، التكافل ، والحماية.

والعشيرة، بهذا المعنى ، ليست نقيض الدولة ولا ظلّها ، بل هي رصيدها الأخلاقي ومخزونها الرمزي ؛ هي القوة الصامتة التي تمنح الشرعية الاجتماعية للشرعية السياسية ، وتعيد وصل ما انقطع بين القانون والوجدان ، ففي لحظة تاريخية دقيقة ، التقت الحكمة الهاشمية مع عمق القبيلة الأردنية لتصوغ معادلة نادرة : دولة تستمد من القبيلة مشروعيتها المجتمعية ، وقبيلة تستمد من الدولة أفقها القانوني.

إن سرّ التفرد الأردني يكمن في هذه المصالحة العميقة بين حداثة الدولة وذاكرة القبيلة ؛ مصالحة لم تلغِ أحدهما لصالح الآخر، بل جعلت كليهما شرطًا لوجود الآخر ، وهنا تتجلى فلسفة االدولةالأردنية : وطن يَستمد من القبيلة جذوره ، ومن الدولة أجنحته ، ليظلّ متجذّرًا في الأرض ، محلّقًا في المستقبل ، متوازنًا بين الذاكرة والحداثة ، بين الوفاء والانفتاح ، بين الأصالة والتحوّل.

حمى الله الوطن وسدد على طريق الحق خطى قيادته وشعبه





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :