العشيرة والدولة في الأردن .. جدلية الذاكرة والحداثة
د. بركات النمر العبادي
09-10-2025 10:24 AM
ليست العشيرة في الأردن مجرد بنية اجتماعية تقليدية ، ولا الدولة مجرد جهاز إداري حديث ، إنهما – في التجربة الأردنية – ثنائية متشابكة ، تعكس في جوهرها صراع الذاكرة مع المستقبل ، وإرادة البقاء مع مشروع التحديث ، فالأردن لم يعرف القطيعة بين الدولة والقبيلة كما في تجارب أخرى ، بل سعى منذ التأسيس إلى صياغة معادلة فريدة : دولة حديثة تتكئ على القبيلة ، وقبيلة تنفتح على الدولة.
فمنذ نشأة الإمارة ، كانت العشيرة الأردنية هي الضامن الأول للتماسك المجتمعي ، وفي لحظات الاضطراب ، كانت شبكة التكافل العشائري تسبق مؤسسات الرعاية الرسمية ، وفي لحظات التهديد ، كانت رابطة الدم والانتماء العشائري تسبق كل حساب آخر ، ولكن قيمة العشيرة لم تتجسد في القرابة وحدها ، بل كحامل اجتماعي للقيم التي حملتها : الكرم ، النجدة ، حماية الضعيف ، والالتزام بالعرف كقانون غير مكتوب ، هذه القيم ، وإن بدت تقليدية ، شكّلت الأرضية التي بُني عليها لاحقًا الوعي الوطني.
والمتأمل لتاريخ الأردن ، يرى أن العشيرة لم تكن مجرد متلقٍّ للسلطة ، بل كانت شريكًا في صناعة الشرعية ، فالعشائر الأردنية كانت أول من منح الولاء للقيادة الهاشمية ، ووقفت معها في لحظات التأسيس والتهديد.
إن العشيرة كفاعل سياسي ، بما تملكه من عمق اجتماعي ، مثلت دائمًا ما يمكن تسميته بـ "الشرعية الموازية" : شرعية المجتمع في مواجهة شرعية الدولة ، غير أن خصوصية التجربة الأردنية تجلت في قدرة القيادة على جمع الشرعيتين في معادلة واحدة ، وهو ما جنّب البلاد صدامًا شهدته دول أخرى في المنطقة.
قد يبدو الحديث عن العشيرة في الاقتصاد أمرًا غير مباشر، لكن حضورها كان قائمًا دائمًا. فالتكافل الاقتصادي ، ومساندة الأسر في التعليم والزواج والأزمات ، شكّل شبكة حماية اجتماعية لها أثر اقتصادي ملموس ، وإلى جانب ذلك ، فإن الثقة المتبادلة داخل البنية العشائرية أسهمت في تحفيز الاستثمارات المحلية والمبادرات الصغيرة ، خصوصًا في المناطق الريفية التي طالما عانت من ضعف الحضور المؤسسي للدولة ، ومن هنا ، فإن العشيرة لا تُقرأ فقط كتراث اجتماعي ، بل أيضًا كإطار اقتصادي غير معلن ساعد على استقرار المجتمع.
في كثير من الدول ، تحولت العلاقة بين الدولة والقبيلة إلى صراع صفري : فإما دولة تلغي القبيلة ، أو قبيلة تنازع الدولة سلطتها ، غير أن الأردن رسم خطًا ثالثًا : دولة لا تلغي القبيلة ، وقبيلة لا تنازع الدولة ، بل تتكامل معها ، بل اعتمدت ثنائية الدولة و القبيلة ، و هذه الجدلية أنتجت صيغة خاصة من الشرعية : الدولة تملك شرعية الدستور والقانون ، والعشيرة تملك شرعية الذاكرة والوجدان ، والنتيجة : نظام سياسي متوازن ، يستمد قوته من مؤسسات حديثة ، ويستند في الوقت ذاته إلى رصيد اجتماعي متجذر.
ان إعادة تعريف العلاقة بين الدولة و القبيلة كثنائية يفرض نفسه بين السطور ، لان المستقبل لا يقبل الجمود ، وإذا كانت العشيرة قد أدت دور الحماية والبقاء في الماضي ، فإن دورها في الحاضر والمستقبل يجب أن يتجه نحو البناء والتنمية.
• في المجال الاجتماعي: تعزيز قيم المواطنة وسيادة القانون، وتحويل التكافل العشائري إلى مؤسسات مجتمع مدني منظمة.
• في المجال السياسي: المشاركة الواعية التي تنسجم مع التحول الحزبي والبرلماني.
• في المجال الاقتصادي: تفعيل شبكات الثقة العشائرية في دعم المشاريع الإنتاجية والتنمية المحلية.
وفي الختام ، إن القبيلة في التجربة الأردنية لم تكن مجرّد بقايا من زمن البداوة ، بل تحوّلت إلى ذاكرة حيّة توازي نصوص الدستور، وجذور ممتدة في تربة الوطن تُغذّي مشروع الدولة الحديثة ، فهي لم تُختزل في العصبية الضيقة ، بل تجاوزت نفسها لتغدو حاملًا للقيم الكلية : الانتماء ، النجدة ، التكافل ، والحماية.
والعشيرة، بهذا المعنى ، ليست نقيض الدولة ولا ظلّها ، بل هي رصيدها الأخلاقي ومخزونها الرمزي ؛ هي القوة الصامتة التي تمنح الشرعية الاجتماعية للشرعية السياسية ، وتعيد وصل ما انقطع بين القانون والوجدان ، ففي لحظة تاريخية دقيقة ، التقت الحكمة الهاشمية مع عمق القبيلة الأردنية لتصوغ معادلة نادرة : دولة تستمد من القبيلة مشروعيتها المجتمعية ، وقبيلة تستمد من الدولة أفقها القانوني.
إن سرّ التفرد الأردني يكمن في هذه المصالحة العميقة بين حداثة الدولة وذاكرة القبيلة ؛ مصالحة لم تلغِ أحدهما لصالح الآخر، بل جعلت كليهما شرطًا لوجود الآخر ، وهنا تتجلى فلسفة االدولةالأردنية : وطن يَستمد من القبيلة جذوره ، ومن الدولة أجنحته ، ليظلّ متجذّرًا في الأرض ، محلّقًا في المستقبل ، متوازنًا بين الذاكرة والحداثة ، بين الوفاء والانفتاح ، بين الأصالة والتحوّل.
حمى الله الوطن وسدد على طريق الحق خطى قيادته وشعبه