الولايات المتحدة الأمريكية: روما الحديثة وإمبراطورية القرن 21
د. بركات النمر العبادي
11-10-2025 11:13 AM
في تاريخ الأمم ، يسطع نجم دولة ما ، فتخرج من عزلتها الجغرافية لتتوسّع على مدّ الأفق ، وتفرض حضورها على المسرح العالمي لا بالقوة وحدها ، بل بالفكر، والاقتصاد ، والثقافة ، هكذا كانت روما في عصرها الذهبي ، وهكذا تبدو الولايات المتحدة الأمريكية في زمننا الراهن ، دولة تنبض بالحياة ، وتختزن في كيانها ملامح الإمبراطوريات الخالدة.
ليست أمريكا اليوم مجرد كيان سياسي أو رقعة جغرافية ، بل هي فكرة ، حلم ، وقوة تتجاوز حدود المكان والزمان ، هي روما الجديدة التي تبني قلاعها في العقول قبل الميادين ، وتبسط نفوذها ليس عبر السيوف ، بل عبر الشاشات ، والمؤسسات ، والأفكار التي تُعيد تشكيل العالم.
ففي هذا المقال ، نُلقي نظرة فاحصة على أوجه الشبه العميقة بين الإمبراطورية الرومانية التي سادت العالم في الماضي ، والولايات المتحدة الأمريكية التي تقود حاضر العالم ، ونستعرض كيف أصبحت هذه الدولة المعاصرة تُجسّد النموذج الإمبراطوري بكل ما يحمله من عناصر القوة و الهيبة، والعظمة ، والامتداد.
منذ تأسيسها عام 1776، شقّت الولايات المتحدة الأمريكية طريقها إلى صدارة المشهد العالمي ، لتصبح قوةً لا يُستهان بها ، ونموذجًا لإمبراطورية العصر الحديث ، كما يقول المؤرخ البريطاني نيل فيرغسون في كتابه "Colossus: The Rise and Fall of the American Empire"، فإن "الولايات المتحدة تملك من المقومات ما يجعلها وريثة حقيقية لروما في القوة والامتداد والتأثير".
من جمهورية ثورية إلى إمبراطورية عالمية
تمامًا كما بدأت روما القديمة كجمهورية ثم تحولت إلى إمبراطورية تحت حكم أغسطس قيصر، بدأت أمريكا بثورة ضد الاستعمار البريطاني ثم تطورت لتصبح زعيمة للعالم الحر ، وقد قال توماس جيفرسون ، أحد الآباء المؤسسين: "نحن إمبراطورية الحرية، ومصيرنا أن ننشر هذه الحرية حيثما وُجد الظلم.” يا سادة ، انها تتصدر زعامة العالم بلا منازع .
الجيش الأمريكي: الحارس العالمي
مثلما كانت "الجحافل الرومانية" هي أداة روما في فرض النظام وفرض الهيمنة ، فإن الجيش الأمريكي اليوم يؤدي الدور ذاته ، تنتشر القواعد العسكرية الأمريكية في أكثر من ٨٠ دولة ، من اليابان إلى ألمانيا، ومن الخليج العربي إلى أفريقيا ، وفي دراسة لمعهد SIPRI السويدي، تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى عالميًا في الإنفاق العسكري ، بما يزيد عن ٨٠٠ مليار دولار سنويًا.
اقتصاد يفوق إمبراطوريات الزمان
الولايات المتحدة ليست فقط قوة عسكرية ، بل قارة اقتصادية متكاملة ، الناتج المحلي الإجمالي يتجاوز ٢٦ تريليون دولار، مما يجعلها القلب النابض للنظام المالي العالمي ، الدولار الأمريكي، كما كان الدينار الذهبي في روما ، هو عملة العالم ، ومنذ اتفاقية بريتون وودز 1944، أصبح الدولار العملة المرجعية للتجارة العالمية.
هوية وطنية راسخة الجذور
الهوية الأمريكية ، كهوية المواطن الروماني قديمًا ، لا تقوم على الدم أو النسب ، بل على الانتماء للدستور والقيم الجمهورية ، وقد عبّر الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت عن ذلك بقوله: "الأمريكية ليست أصلًا أو لونًا أو دينًا؛ إنها ولاء لفكرة، لفكرة أمريكا." هذا الفخر الوطني يعكسه رفع الأعلام في كل حي ، وترديد النشيد الوطني في المدارس والمناسبات.
الإمبراطورية التي تحكم بالثقافة والعقل
لكن القوة الأمريكية لا تُقاس فقط بالسلاح أو المال ، بل بالقدرة على التأثير الثقافي والفكري ، كما كانت روما مركزًا للفكر والهندسة واللغة ، تصدّر أمريكا اليوم ثقافتها عبر السينما ، الإنترنت ، الجامعات ، والتكنولوجيا ، الجامعات الأمريكية تهيمن على التصنيفات العالمية، وتستقطب العقول من كل مكان ، كما فعلت أكاديمية أثينا ذات يوم.
إرث روما في عباءة حديثة
الولايات المتحدة ، في حقيقتها ، ليست فقط قوة سياسية ، بل منظومة متكاملة تُمارس النفوذ بذكاء ، وتُعيد تشكيل العالم وفقًا لقيمها وأولوياتها ، إنها روما الحديثة : لا تُحكم من عرش واحد ، بل من مبادئ مترسخة ومؤسسات راسخة ، وجيوش منتشرة واقتصاد ضخم ، وشعب يعتز بانتمائه.
إنها الإمبراطورية التي ، كما قال المؤرخ بول كينيدي، "تملك كل عناصر الاستمرار، لكنها تحتاج إلى وعي بالإرث الذي تحمله ، كما احتاجت روما إلى حكمة تُوازي قوتها".
حمى الله الاردن وسدد على طريق الحق خطى شعبه وقيادة