ما بعد الحرب: قراءة في الدور الأردني
النائب نور أبو غوش
12-10-2025 01:15 AM
حين تنتهي الحروب، تبدأ الامتحانات الأشد صعوبة، إذ تُعاد صياغة النفوذ، وتُختبر التحالفات، وتتحرك القوى الإقليمية والدولية لملء الفراغات السياسية، ويعاد ترتيب الأولويات. وغالباً ما تكون مرحلة ما بعد الحرب أصعب وأدق من الحرب نفسها، وهنا، يطرح السؤال في مناظرات وندوات ومقالات وجلسات عدة، حوّل دور الأردن ما بعد الحرب، وما يملك للداخل والخارج مستفيداً من توازنه الإقليمي ووزنه الإنساني والدبلوماسي إقليمياً ودولياً، فالعين اليوم على غزة، ولأجلها ولأجل فلسطين كلها، لا بدَّ من السعي في كل الخطوات التي تضفي تمتيناً للموقف والدور الأردني، حيث وأننا ندعو الله تمام الصفقة واستكمال مراحل وقف العدوان كلها، فإننا ندرك أن القادم في الضفة وفي المنطقة يحتاج رؤيةً سياسية واقتصاديةً مختلفة.
بحكم موقع الأردن الجيوسياسي، فإنّا لا نملك ترف الانتظار أو المراقبة، فالظروف الراهنة تفرض عليه النظر في مشروع عملي متكامل لما بعد الحرب؛ يضع الأردن في موقع المبادِر المُحرِّك، فما الذي يمنع دولةً بحجم الخبرة والعراقة السياسية كالأردن من إنشاء مركز تنسيق عربي–فلسطيني دائم في عمّان يضم سياسيين وخبراء اقتصاد وأمن، وصولًا إلى تحريك أدواته الدبلوماسية لبلورة موقف عربي موحد أمام المانحين والمؤسسات الدولية، يمكن من خلاله تحريك الدبلوماسية الاقتصادية يؤسس فيها مع شركائه العرب مبادرة لإعمار غزة، تُدار بشفافية وتخضع لرقابة مؤسسية تشارك فيها البنوك والشركات، على أن تكون عمّان مركزًا لوجستياً وتقنياً لإدارة عمليات الإعمار والتدريب وإعادة تأهيل المؤسسات الفلسطينية صحياً وتعليمياً وغيره. وقد شكّل الدور الإغاثي الأردني المستمر في غزة - عبر المستشفيات الميدانية والقوافل الإنسانية - قاعدة عملية يمكن البناء عليها في مرحلة الإعمار والتنمية المقبلة، حيث نملك ألّا يقتصر الأمر على الإغاثة بل يتجاوزها إلى بناء القدرات والفرص المستدامة.
تحتاج المنطقة اليوم مشروعاً عربياً إسلامياً واقعي ومتكامل، لا يقتصر على الأمن الجماعي، بل يقوم على ثلاثة ركائز متوازية: اقتصادية تنموية، وأمنية، ودبلوماسية تُبنى على المصالح المشتركة في الطاقة والمياه والنقل والتجارة، وتجعل التعاون عبر هذا المشروع العربي والإسلامي ضرورة معيشية لا شعاراً سياسياً، فهذا المشروع ليس حلماً مستحيلاً، لكنه اليوم فكرة بلا إدارة حقيقة، رغم أنه من الممكن الابتداء بتكتلات فرعية ناجحة —سياسية أو اقتصادية أو تكنولوجية أو برلمانية— تشكّل نواة التنسيق الأكبر، كإنشاء محور أردني–مصري–سعودي في ملف الأمن المائي والغذائي، أو محور اقتصادي خليجي–شامي، أو مجلس موحد في إطار برلماني عربي إسلامي، أو غيره من لبنات صغيرة التي تُحوّل المشروع من شعار إلى معادلة واقعية، كما حدث في الاتحاد الأوروبي وغيره من التجارب العالمية. ويملك الأردن أن يكون مركزًا لهذا التحول، ليس لأنه الأكبر أو الأغنى، بل لأنه الأكثر توازناً وقدرة على الجمع بين القوى المختلفة عبر شبكة علاقات دبلوماسية أخوية ممتدة، نملك البناء عليها لأجل عمل مؤسسي حقيقي، وكما قال الفيلسوف ريمون آرون: “السياسة الخارجية الجيدة هي تلك التي ترى الواقع كما هو، لا كما نتمنى أن يكون".
ولكي يمارس الأردن هذا الدور الخارجي بثقة، لا بد مراجعات وخطوات عملية داخلية تحدث تمكيناً موازٍ عبر:
1 .تعزيز وحدة القرار الاقتصادي والدبلوماسي عبر تنسيق أعمق بين الوزارات والمؤسسات السيادية لتشكيل رؤية واحدة تجاه الملفات الإقليمية.
2 .إنشاء وحدة دبلوماسية اقتصادية داخل وزارة الخارجية تُعنى بتحليل الأسواق والفرص الإقليمية وربطها بالمشاريع الوطنية.
3 .توسيع دور مراكز الدراسات والجامعات لتكون شريكاً معرفياً في صنع القرار، عبر تقديم أوراق سياسات واقعية لا نظرية.
4.إعادة ترتيب الأولويات الوطنية بما يعيد الثقة بالقطاع العام ويحفّز الاستثمار المحلي في الطاقة، الزراعة، التكنولوجيا، والصناعات الصغيرة.
5.فتح قنوات حوار وطني داخلي يُعنى بمناقشة كل الملفات العالقة والسعي إلى فتح المسارات المغلقة التي ظهرت على الحال السياسي داخلياً في الفترة الأخيرة.
6.تطوير الخطاب الإعلامي الوطني ليكون مبنياً على رؤية استراتيجية قريبةً من الشارع الأردني والعربي، وتحصّن الداخل من الشائعات والتشويش.
7.ترسيخ منظومة الحريات السياسية والإعلامية بوصفها ركيزة الثقة ومنفذ التمكين الحقيقي، فالمجتمعات التي يُسمح فيها بالتعبير والمساءلة تبني مناعة سياسية وأمنية حقيقية، والانفتاح المسؤول لا يُضعف الدولة بل يحصّنها، ويمنحها قدرةً أقوى للتحرك خارجياً.
8.تعزيز الدور القانوني والدبلوماسي المرتبط بالوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس، عبر توثيق الانتهاكات التي تمس الوضع القائم، وتفعيل أدوات الحوار الدولي لتثبيت الرواية القانونية والإنسانية التي تحمي هوية المدينة وقدسيتها.
تغير الحروب شكل الصراع في كل مرة، لكنها جولات الحرب لا تنتهِ، وكما قال غرامشي: “المستقبل ليس ما ننتظره، بل ما نُعدّ له.” والمستقبل هنا يُكتب بالعمل والإرادة التي نملك بالأردن المقدرة على ضبطها وتنفيذها، عبر تحويل التحديات إلى مسارات، والمسارات إلى سياسات، والسياسات إلى حضورٍ فاعلٍ ومستدام.
هذه ليست أضغاث أحلام، بل ملامح واقعٍ ممكن، حين تتوفّر الإرادة، وتتلاقى العقول على مشروعٍ وطنيٍّ يدرك أن في ما بعد الحرب مرحلة مليئة بالتحديات، إذ لا يدري أحدنا ما القادم في الضفة والمسجد الأقصى والمنطقة كلها، وعليه فكل فرصة لتموضع سياسي وسدٍّ للثغور وإصلاح للمؤسسات ستفيد على مدى الأيام القادمة.