قمة شرم الشيخ .. بين اتفاق غزة وأوسلو جديدة
صالح الشرّاب العبادي
12-10-2025 10:07 AM
غدًا، تتجه الأنظار إلى شرم الشيخ، حيث سيُعلن عن ما وصفته واشنطن بأنه “اتفاق غزة”، برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبحضور عدد من القادة العرب والدوليين، في مشهدٍ يوحي بنهاية الحرب الأطول والأعنف في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي. لكن الحقيقة الأعمق أن القمة ليست نهاية حرب، بل بداية اختبارٍ سياسي وأخلاقي جديد: اختبار التنفيذ والضمانات.
فالقمة، في جوهرها، ليست للاحتفال بالسلام، بل لتوزيع الأدوار في مرحلة ما بعد الحرب: من يدير القطاع؟ من يضمن الأمن؟ من يعيد الإعمار؟ ومن يمتلك القرار في غزة؟
لكن :
من سيحاسب دولة الإجرام على إجرامها ؟ هل سيكون هناك عدالة دولية للمحاسبة ؟
ام يتحلل نتنياهو وزمرته وقادة الأجرام بصكوك غفران تصدر من شرم الشيخ؟
هذه الأسئلة ليست تقنية ولا بروتوكولية، بل أسئلة سيادة وشرعية ومصير.
الولايات المتحدة تسعى لتثبيت رؤيتها بأن المرحلة المقبلة ستكون “انتقالية”، تُدار بإشراف إقليمي ودولي، مع ترتيبات أمنية تقيد حركة المقاومة وتخضع غزة لنظام رقابة صارم ، وتحقيق طوق امني لإسرائيل واعادة احياء اتفاقيات أبراهام .. وإعادة اسرائيل إلى دورها الردعي وإخراجها من عنق العزل الدولي .
في المقابل، تميل الدول العربية إلى رؤيةٍ أكثر توازنًا تحفظ دور وحق الفلسطينيين وتمنع انزلاق القطاع إلى وصايةٍ غربية بغطاءٍ عربي ، وهي امام اختبار تاريخي ..
أما إسرائيل، فتدخل القمة مثقلة بالريبة والانقسام الداخلي؛ إذ يدرك نتنياهو أن توقيعه في شرم الشيخ قد يكون بداية النهاية لحياته السياسية، لكنه يراهن على المماطلة والتفجير من الداخل عبر الشروط الأمنية والتفسير الأحادي لأي التزام ، ووعود ترامب بشبكة امان له.
والمقاومة بوعيها المتراكم بعد عامين من النار والدمار ، تدرك أن المعركة لم تنتهِ، وأن ما يُعرض في القمة ليس سلامًا نهائيًا، بل اختبارًا للنوايا. القبول المشروط لا يعني الاستسلام، بل قراءة واعية لموازين القوى، واستثمار سياسي لصمودٍ غير مسبوق.
لكنّ السؤال الأهم: ما بعد شرم الشيخ؟
إذا كانت هذه القمة إعلانًا لنهاية حرب غزة، فهي أيضًا بداية حسابٍ إقليمي كبير.
فأين الضفة الغربية من هذا الاتفاق؟
الاستيطان الذي ابتلع أكثر من 60% من أراضيها لم يتوقف، بل ازداد جشعًا وغطرسة.
وهل سيتم اتخاذ قرارا بوقف تهجير فلسطينيي الضفة الى خارجها ؟
وأين حلّ الدولتين الذي وعدت به أوسلو؟ تلك الاتفاقية التي احترقت ولم تخلّف سوى سلطةٍ محاصرة وجدارٍ عنصريٍّ يلتهم الجغرافيا والذاكرة.
ثم ماذا عن لبنان الذي تُخترق سماؤه يوميًا بلا رادع؟ وسوريا التي لا يزال شريطها الجنوبي والشمالي محتلاً؟ والعراق الذي يعيش بين نفوذين متضادين؟
وأين تقف إيران من كل ذلك ، هل هي العدوّ الذي ينبغي تحجيمه، أم الشريك الاضطراري الذي لا يمكن تجاوزه؟
هذه الملفات إن لم تُفتح بشجاعة، فكل ما سيُقال في القمة لن يتجاوز حدود الهدنة المؤقتة.
فالسلام الحقيقي لا يقوم على إسكات البنادق فقط، بل على معالجة الجذور التاريخية للصراع، وعلى الاعتراف بحقوق الشعوب لا على مقايضتها.
إن قمة شرم الشيخ، بقدر ما تحمل من وعود، تُخفي في طيّاتها احتمالًا قاتمًا: أن تكون أوسلو جديدة تُكرّس واقع الاحتلال وتُعيد إنتاجه بوجهٍ ناعم، أو سايكس بيكو سياسية جديدة تُعيد ترسيم النفوذ باسم “السلام الإقليمي”.
وما لم تُضبط معادلة العدالة قبل الأمن، والسيادة قبل الإعمار، فإن الثمن الذي دُفع في غزة من دماء ودمار سيُهدر في صفقات الغرف المغلقة.
غزة اليوم ليست مجرد مدينة مهدّمة؛ إنها ميزانٌ جديد في الوعي الإقليمي.
لقد تغيّر شكل القوة، وتغيّر شكل الهزيمة أيضًا.
والنتيجة التي يجب أن توزن بمقدار الثمن الذي دُفع لأجلها، ليست هدنةً أو إعمارًا، بل تثبيت الوعي بأن الاحتلال لا يمكن أن يكون قدرًا، وأن الشعوب لا توقّع صك الاستسلام نيابة عن نفسها.
فهل تكون شرم الشيخ بداية مصالحة مع الحقيقة، أم بداية خدعةٍ جديدة؟
الجواب لن يأتي من البيان الختامي، بل من الميدان، ومن إرادة الشعوب التي لم توقّع بعد على سلامٍ لا يشبهها.
اخيراً ..
إن الدول العربية اليوم تقف أمام اختبارٍ حقيقي ومفصليّ لا يقلّ خطورة عن لحظات ما بعد النكسة أو غزو الكويت أو سقوط بغداد.
فالقرارات التي ستُتخذ في شرم الشيخ لن تحدد مصير غزة وحدها، بل شكل الإقليم كله لعقودٍ قادمة.
إما أن تختار العواصم العربية طريق الاستقلال السياسي ورفض الوصاية، وإما أن تنزلق بوعي أو بدونه إلى هندسة شرق أوسطٍ جديدٍ يرسمه الآخرون ويُنفّذ بأيدينا.
لقد آن الأوان أن تعي الأنظمة العربية أن اللحظة التاريخية لا تتكرر، وأن الشعوب التي صمدت في وجه النار لن تقبل أن يُباع صمودها في صفقاتٍ آنية أو بياناتٍ منمّقة.
من شرم الشيخ قد يبدأ طريق سلامٍ حقيقي، أو طريق تقسيمٍ جديد.
والفارق بينهما، في النهاية، قرارٌ عربيٌّ شجاع… أو غيابُه.