تتدحرج الأزمة المركبة في لبنان، بسبب نزع سلاح حزب الله، يومًا بعد آخر، مثل كرة النار، على وقع الضغوط والتهديدات الأمريكية، والمناورات الإسرائيلية، على الحدود الشمالية، في ظل (حالة شلل) محلية، وصمت عربي مُطْبَق و (مُرِيب)، وموقف دولي (أخرس) ومشكوك في نواياه.
وحدَه لبنان (الدولة والإنسان) هو من سيدفع ثمن فساد بعض سياسييه ومسؤوليه، ومراهقة معارضته وموالاته وتراخي أصدقائه، وتجاهل معظم أشقائه، وسادية وعنجهية عدوه إسرائيل، التي ليس من مصلحتها أن يكون لبنان بلدًا آمنًا مُستقرًا، لأنها تريد أن تُبقي (مسمار جحا) اللبناني حاضرًا وفاعلًا ومبررًا لتدخلاتها وعدوانها، وتصدير روايتها القائمة على أنها مُعرَّضة للتهديد.
دَفْعُ الجيش اللبناني بإمكانياته المتواضعة (يحتل المرتبة 111 عالميًا من بين 145 دولة) لكي يدخل في صراع مع حزب الله هو (وصفة سحرية) لزرع بذور الحرب الأهلية، والبديل هو عدوان إسرائيلي بلا سقف زمني، على لبنان كله، وتجميد لكل عمليات الإعمار أو تقديم المساعدات، مما يضع لبنان برمّته على حافة (الهاوية) سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
والسؤال: هل عجز العرب وجامعتهم عن طرح مبادرة شبيهة باتفاق (الطائف) تُنهي هذا الملف بصيغة (لا غالب ولا مغلوب)؟ مبادرة تحفظ أمن لبنان ومستقبله، وتُؤسِّس لمصالحة وطنية، وتُراعي مصالح الجميع دون (إذلال) هذا الطرف، أو هزيمة ذاك، مبادرة تنبع من نوايا صادقة، وتتبع أساليب (نزيهة) ويُحشَد لها دعم دولي لضمان نجاحها، وفعالية تنفيذها؟
مثل هذه المبادرة، ربما هي السبيل الوحيد لإنزال (حزب الله) عن الشجرة، وإفهام إيران بأن الساحة اللبنانية لم تعد أحد (مخالبها). المبادرة هي الطريق المُعبَّد، لإقناع (سُنَّة لبنان ومسيحييه) بأن لا أحد قادر على مصادرة أمنهم، أو فرض رؤيته عليهم، وهي الدليل العملي الموجه لواشنطن وتل أبيب، بأنه ما زال هناك عرب، قادرون على معالجة قضاياهم و (لَمِّ شمل شتاتهم) والتأثير في (مصير إقليمهم).
المبادرة (إذا أُحسِن صياغتها، والتحضير لها) من شأنها تحقيق معادلة تحفظ سيادة الدولة اللبنانية والسلم الأهلي، والاستقرار الإقليمي، وتمنع اندلاع أي حرب أهلية أو مواجهة مع إسرائيل، عبر معالجة مُتدرِّجة ومُتوازِنة تُراعي الخصوصية اللبنانية وتضمن العدالة لجميع الأطراف.
مَن يختلف مع فكرة حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، التزامًا باتفاق الطائف والقرارات الدولية، ومَن لا يُعجبه الشروع في حوار وطني يُفضي إلى وضع أُسس دستورية جديدة، تُعزِّز الديمقراطية، وتُحارب الإقصاء والتهميش، ومَن يغضب من بذل جهد لإقناع حزب الله بالانتقال إلى حزب سياسي مدني يمارس دوره عبر البرلمان والمؤسسات الوطنية، وأن يتخلى (طوعيًا) عن العمل المُسلَّح، بالحوار والإقناع، لا بالمواجهة والإكراه، على أن تُدار العملية برعاية الدولة اللبنانية وبدعم عربي ودولي، وبما يحفظ (كرامة) الجميع ووحدة البلاد.
ولكي تطمئن مختلف الأطراف يمكن أن تقوم المبادرة على مبدأ التدرُّج في تطبيق الخطوات المتفق عليها، وبالتوازي مع التزامات مُقابِلة من جميع الأطراف الإقليمية والدولية، وبخاصة إسرائيل، لضمان التوازن، وبحيث يعتمد التنفيذ على جدول زمني مُتفق عليه، ويُربَط كل تقدُّم بخطوات مُتبادَلة، تُعزِّز الثقة وتضمن الالتزام. وهل يضير الجميع أن تُقدَّم للحزب ضمانات موثوقة بألاَّ تتحوَّل الأراضي اللبنانية إلى ساحة مُستباحة بعد تسليم السلاح، وتعهُّدات دولية (برعاية الأمم المتحدة ودعم من الولايات المتحدة وفرنسا) بعدم الاعتداء على لبنان، والإسراع بترسيم الحدود النهائية وانسحاب إسرائيل من أي مواقع وأراضٍ لبنانية محتلة.
الضمانات يجب أن تشمل أيضًا، أن حزب الله سيبقى طرفًا سياسيًا فاعلًا ومكوّنًا أساسيًا في الحياة الوطنية، ولن يتعرَّض لأي مُلاحَقة أو إقصاء سياسي أو انتقام، وأن تُطلَق خطة تنمية شاملة للمناطق المُتضررة التي كانت تشكِّل قاعدة اجتماعية للحزب، خصوصًا الجنوب والبقاع والضاحية بتمويل عربي ودولي، لكي يشعر المواطنون بأن مرحلة ما بعد السلاح جلبت لهم الأمن والازدهار.
ومن الضروري أن تؤدي المبادرة إلى تسوية شاملة توازن بين مُتطلَّبات السيادة وضرورات الطمأنينة، وتعتمد على آلية رقابة دولية بإشراف الأمم المتحدة لضمان حُسن التنفيذ، وعلى توفير الدعم المالي واللوجستي للجيش اللبناني، وعقد مؤتمر دولي لدعم لبنان فور التوصل إلى اتفاق لبناني شامل.
وإذا صدقت النوايا، فإن بإمكان الرئيس دونالد ترامب أن يلعب دورًا محوريًا في ضمان التزامات إسرائيل المطلوبة، بما يشمل وقف الاعتداءات المستمرة وسحب قواتها من الأراضي اللبنانية، وأن تقوم واشنطن بتقديم المساعدات الاقتصادية للحكومة اللبنانية، وحشد التأييد الدولي للمبادرة عبر مجلس الأمن، وتوفير المظلة القانونية والسياسية لتنفيذها.
ولوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، فإن الأجدر في هذا السياق، أن تُكلَّف الأمم المتحدة بمتابعة التنفيذ من خلال بعثة مُراقَبة دولية تعمل بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية والجيش، فيما تُسهم دول الاتحاد الأوروبي في دعم إعادة الإعمار وتمويل برامج التنمية.
نجاح هذا المسعى، يؤدي إلى تحقيق التوازن بين الأمن والسياسة، بحيث يتم استبدال منطق (السلاح) كضمانة بمنطق (الدولة)، فالأمان لن يتحقق بالمليشيا، بل بدولة قوية وجيش موحَّد تحميه الشرعية والدعم العربي والدولي.
في ظل هكذا مبادرة، يُعاد بناء الثقة بين الدولة والمواطن، ويُصبح الجيش هو الحامي الوحيد للوطن، والدولة هي المرجعية النهائية للقرار السيادي، وينتقل لبنان (عمليًا) إلى مرحلة الدولة الواحدة والسلاح الواحد والقرار الواحد، بدلًا من أن يبقى ساحة لتصفية حسابات الآخرين، الذين ينفذون على أرضه أجنداتهم، وينفثون في جنباته سُمومهم.
theeb100@yahoo.com