في لحظات الركود الكبرى في حياة الشعوب، لا تنقذها الخطب ولا الوعود، بل المشروع. ذلك الكيان الفكري ــ العملي، الذي يجمع الناس على فكرة واحدة، تتجاوز تفاصيلهم الصغيرة، وتمنحهم بوصلة باتجاه المستقبل.
في الأردن وبعد مئة عام من عمر الدولة، يبدو أننا بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى مشروع وطني تنموي؛ مشروع يعلو فوق المناطقية والهويات الفرعية، ويستعيد روح الدولة كفكرة جامعة، لا كجغرافيا متعبة أو مؤسسات تنتظر التعليمات.
نحن بحاجة إلى مشروعٍ يجعل الأردني، في أي مدينة أو قرية أو بادية، يشعر أنه شريك في بناء الغد، لا متفرّجًا على قرارات تُتخذ باسمه. مشروع يدفع الناس إلى التفكير فيه على مدار الساعة، إلى الإيمان بأن ما يزرعونه اليوم سيثمر غدًا في صورة بلدٍ مختلفٍ، أكثر عدلًا وإنتاجًا وكرامة.
لقد عاشت أمم كثيرة ظروفًا أصعب منا، وخرجت من أزماتها عبر مشروع وطني جامع.
كوريا الجنوبية: التصنيع كمشروع وطني
في سبعينيات القرن الماضي، كانت كوريا الجنوبية واحدة من أفقر دول آسيا، منهكة من الحرب ومقسمة داخليًا. قررت أن تجعل من التصنيع الشامل مشروع الدولة المركزي، فبدأت بخطة خمسية عام 1970 ركّزت على الصناعات الثقيلة، والسفن، والسيارات، والإلكترونيات. تحولت كوريا خلال عقدين إلى خامس أكبر قوة صناعية في العالم، ليس بالموارد، بل بالعقل والإصرار، وأصبحت شركات مثل سامسونغ وهيونداي رموزًا وطنية تعبّر عن نجاح فكرة المشروع.
سنغافورة: التعليم والانضباط بوصفهما مشروعًا
حين نالت سنغافورة استقلالها عام 1965، كانت جزيرة بلا موارد طبيعية، تعاني بطالة مرتفعة وصراعات عرقية. لكن صاغت مشروعًا وطنيًا يقوم على التعليم والانضباط والنزاهة في الإدارة ربط بين المدارس والمصانع، وخلق اقتصادًا يعتمد على الكفاءات لا الانتماءات. اليوم، يتحدث العالم عن المعجزة السنغافورية، حيث يبلغ نصيب الفرد من الدخل أكثر من 70 ألف دولار سنويًا، في بلد كان يُعدّ قبل نصف قرن قرية فقيرة في آسيا.
رواندا: من جراح الحرب إلى مشروع النهضة
بعد مجازر عام 1994 التي أودت بحياة أكثر من 800 ألف إنسان، كان يمكن لرواندا أن تبقى جرحًا مفتوحًا في قلب أفريقيا. لكنها أطلقت مشروع “رؤية 2020”، الذي جعل من المصالحة الوطنية والتنمية الزراعية والتكنولوجيا أدوات لإعادة بناء الدولة. أُنشئت مؤسسات للمساءلة والمشاركة المحلية، وارتفع دخل الفرد ثلاثة أضعاف خلال عقدين، وأصبحت كيغالي واحدة من أنظف وأسرع العواصم نموًا في أفريقيا. المشروع هناك لم يكن اقتصاديًا فحسب، بل اجتماعيًا وأخلاقيًا أعاد تعريف المواطنة بعد الكارثة.
فنلندا: التعليم بوصفه ثروة وطنية
في ستينيات القرن الماضي، كانت فنلندا بلدًا زراعيًا يعاني ضعف الإنتاجية، فقررت أن تجعل التعليم مشروعها الوطني الأسمى، استثمرت في تدريب المعلمين، ودمجت التكنولوجيا في التعليم، وألغت التفاوت بين المدارس. اليوم تحتل فنلندا المراتب الأولى عالميًا في جودة التعليم ومؤشرات السعادة، بفضل مشروع لم يُفرض من فوق، بل تبنّاه المجتمع بأكمله كقضية وجودية.
تشيلي: من الأزمة إلى نموذج أمريكا اللاتينية
في ثمانينيات القرن الماضي، كانت تشيلي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، وديون هائلة، ومعدلات بطالة تجاوزت 20%. لكنها تبنّت مشروعًا إصلاحيًا جريئًا عُرف باسم النمو مع العدالة، ارتكز على تحرير الاقتصاد تدريجيًا مع الحفاظ على شبكات الأمان الاجتماعي.
خلال عقدين، ارتفع الدخل الفردي ثلاثة أضعاف، وأصبحت تشيلي أول دولة في أمريكا اللاتينية تنضم إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
الأردن… في انتظار المشروع
الأردن اليوم يمتلك كل عناصر النجاح: كفاءات بشرية، مؤسسات متماسكة، موقع جغرافي فريد، واستقرار سياسي هو عملة نادرة في المنطقة. لكن هذه العناصر تبقى خاملة دون فكرة جامعة تدمجها في مسار واحد.
مشروع يغيّر المزاج العام من الانتظار إلى الفعل، من الشكوى إلى المشاركة، من الإحباط إلى الإيمان بأنّ الغد يُصنع هنا.
ليس المطلوب مشروعًا حكوميًا جديدًا أو لجنة إضافية، بل روح وطنية جديدة تتجسّد في خطة واضحة تلمس حياة الناس وتعيد الثقة بالمستقبل.
مشروع تشارك فيه الجامعات بخبرتها، والإعلام برسالته، والشباب بحماسهم، والقطاع الخاص بقدراته، والريف والبادية والمدينة بخصوصيتهم التي تصنع التنوع لا الانقسام.
حين يكون للأردن مشروع واحد يتحدث الناس عنه، ويتابعون مراحله، ويشعرون أن نجاحه يعنيهم جميعًا، عندها فقط تتغير نفسية المجتمع، ويبدأ الأمل بالتحول من ترف لغوي إلى سلوك يومي.
فالمشاريع الكبرى لا تصنعها الحكومات وحدها، بل تصنعها الروح العامة حين تؤمن أن النهضة ممكنة.
تحويل الأردن خلال عشر سنوات إلى دولة منتجة بالمعنى الكامل للكلمة، تعتمد على المعرفة، والطاقة المتجددة، والزراعة الذكية، والصناعات الصغيرة، بدلاً من اقتصاد قائم على الريع والتحويلات والمساعدات.
مشروع يهدف إلى جعل الإنتاج لا الاستهلاك قيمة وطنية ومصدر فخر، بحيث يتحول مفهوم العمل والإنتاج إلى هوية اجتماعية جامعة تعبر عن كرامة المواطن ومشاركته في نهضة بلده.
الأردن لا يحتاج إلى وصف مشاكله، فقد أتقنّا التشخيص حد الإنهاك، بل إلى جرعةٍ من الحلم المنظم، إلى فكرةٍ جامعة تلتقط الإيجابي في هذا البلد وتعيد تدويره في مسارٍ تنموي متصاعد..
مشروع يغيّر وجه البلد فعلاً، ويحوّل الطاقات المهدورة إلى حركة إنتاج وأمل.
مشروع يعيد تعريف الوطنية، لا بوصفها انتماءً ساكناً، بل فعلاً يوميًا يشارك فيه الناس جميعًا، من المزارع إلى العالم، ومن الطالب إلى الوزير.
هكذا تُبنى الدول. وهكذا يتحوّل الوطن من مكان نعيش فيه، إلى مشروع نعيش من أجله.