بين الذكاء الطبيعي والذكاء الاصطناعي .. ضاع العقل
د. لينا جزراوي
25-10-2025 11:26 AM
منذ أن بدأت الهواتف الخلوية تغزو حياتنا، تغيّر تعاملنا مع الذاكرة بشكل لافت. في الماضي، كنّا نحفظ أرقام هواتف أصدقائنا وأقاربنا عن ظهر قلب، ونرتّب برنامجنا اليومي في صفحات الذاكرة، فلا ننسى موعدًا ولا نفقد التركيز في متابعة فكرة أو معلومة بذلنا جهدًا للحصول عليها. أمّا اليوم فقد ضعفت الذاكرة، وأصبح الهاتف المحمول بمثابة “العقل” الذي نحمله بين أيدينا. فإذا فُقد أو تعطّل لأي سبب، يشعر الإنسان وكأنه فقد ذاكرته وتاريخه وربما مستقبله أيضًا.
هنا يطرح السؤال نفسه: كيف نفسّر هذه الظاهرة؟
لعلّ المثال الأقرب لفهم ذلك هو ما يحدث مع عضلات الأرجل. فإذا جلس الإنسان طويلًا بلا حركة، ثم حاول الوقوف فجأة، سيواجه صعوبة في النهوض والحركة، وقد ترافقه آلام في المفاصل. والسبب أنّ العضلات تضعف بقلة الاستخدام، والمفاصل تُصاب بالتيبّس مثل مفاصل الأبواب التي تُترك مغلقة لفترة طويلة. ولإعادة القوة والمرونة، لا بد من التمرين المستمر.
هذا بالضبط ما يحدث مع الذاكرة. فحين نعتمد اعتمادًا كليًا على الأجهزة الرقمية في حفظ المعلومات واستدعائها، يضعف تدريجيًا الجزء من الدماغ المسؤول عن هذه الوظيفة. ومع الوقت، نجد أنفسنا نستغرق وقتًا أطول لاسترجاع معلومة بسيطة، تمامًا كما يضعف المفصل أو العضلة المهملة.
المشكلة اليوم لم تعد مقتصرة على حفظ الأرقام أو المواعيد، بل امتدّت إلى عمليات التفكير ذاتها. فمع تطوّر أدوات الذكاء الاصطناعي والاعتماد الكبير عليها، يتهدّد العقل البشري في مهاراته الأساسية: البحث، التحليل، التركيب، والنقد. وإذا استمر هذا النمط، فقد نجد أنفسنا أمام جيل يتوقف عن التفكير المستقل، ويصبح أسيرًا بالكامل لتلك الأدوات التي تفكّر وتبحث وتستنتج بالنيابة عنه. وعندها، قد تضمر بعض مناطق الدماغ لغياب الحاجة إلى استخدامها، كما يحدث في الطبيعة مع أي عضو يتوقف الإنسان عن تشغيله.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أهمية هذه الأدوات في حياتنا اليومية، فهي جزء لا غنى عنه من تطورنا المعاصر. لكن الخطر يكمن في فقدان التوازن. إن ما نحتاجه فعلًا هو الوعي، والحكمة، وحسن استخدام الذكاء الاصطناعي، إن قوة العقل تكمن في قدرته على التمرين والاستخدام، وكلما أهملناه ضعفت ذاكرته وتراجعت قدراته.
التكنولوجيا أداة رائعة لتسهيل الحياة، لكنها لا ينبغي أن تكون بديلًا عن التفكير الطبيعي. فلنستخدمها بوعي، ونمنح عقولنا حقها في العمل، حتى لا نستيقظ يومًا على جيل فقد أغلى ما يملك: القدرة على التذكّر والتفكير.
رئيسة الجمعية الفلسفية الأردنيّة