التعليم والتعلُّم: تأمّل فلسفي في ضرورة الارتقاء الإنساني
د. بركات النمر العبادي
28-10-2025 11:03 AM
منذ لحظة الوعي الأولى، وقف الإنسان أمام الكون متسائلًا: "من أنا؟ وما غايتي؟" وكانت المعرفة هي الوسيلة التي بها فَكّ ألغاز الوجود ، ومن هذه الحاجة الوجودية وُلد التعليم، لا بوصفه أداة لتلقين المعلومة، بل بوصفه مسارًا مستمرًّا لتشكيل الإنسان ذاته، أخلاقيًا، وعقليًا، وروحيًا ، في هذا المقال، نستعرض فلسفة التعليم من منظور إنساني شامل، ونطرح تساؤلًا جوهريًا: لماذ
نحتاج إلى التعليم كعلُّم ليس فقط كأفراد، بل كجنس بشري؟ وماالفرق بين التعليم والتعلُّم ؟
رغم ترابط المصطلحين، فإنّ هناك فرقًا جوهريًا بينهما:
• التعليم: هو العملية التي يُنقل فيها العلم من المعلِّم إلى المتعلِّم، وغالبًا ما تتمّ في إطار منظم كمثل المدارس والجامعات.
• التعلُّم: هو أوسع وأشمل، ويعني اكتساب المعرفة أو المهارات من خلال التجربة ، الممارسة، أو حتى من خلال التفاعل مع البيئة والمجتمع ، وقد يكون التعلُّم ذاتيًا أو تلقائيًا دون الحاجة إلى مُعلِّم مباشر.
أولًا: التعليم بوصفه ظاهرة فلسفية
يرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أن "الإنسان لا يمكن أن يصبح إنسانًا إلا بالتعليم"، وهو ما يشير إلى أن الكائن البشري يولد "قابلًا" للإنسانية، لكنه لا "يُنجزها" إلا من خلال التعلُّم والتربية.
التعليم هنا ليس ترفًا أو حقًا فقط، بل شرط وجودي لتحقيق الذات الإنسانية ، وهذا المفهوم تعزّز في الفكر الحديث مع جون ديوي، الذي ربط التعليم بالحياة ذاتها، فقال: "التعليم ليس استعدادًا للحياة؛ إنه الحياة نفسها."
ثانيًا: فلسفة التعلُّم بين التلقين والحرية
فلسفيًا، ثمة صراع دائم بين نموذج التعليم التلقيني السلطوي ونموذج التعليم التحرّري الحواري.
• النموذج الأول، الذي انتقده باولو فريري في كتابه "تعليم المقهورين"، يُعامل المتعلّم كوعاء فارغ، ويكرّس اللامساواة.
• أما النموذج الثاني، فيرى التعليم مساحة للحوار، حيث يُشارك المتعلّم في إنتاج المعرفة لا استهلاكها فقط، مما يعكس احترامًا لإنسانيته.
"الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، والتعليم هو الخطوة الأولى نحو الوعي بهذه الحرية." — باولو فريري" .
ثالثًا: التعليم كأداة للعدالة الإنسانية
في زمن تتسع فيه الفجوة بين الشعوب ، يصبح التعليم هو الجسر الذي يربط بين الفقر والكرامة ، وبين الجهل والتمكين ، و تقول منظمة اليونسكو في تقريرها لعام 2021:
"الحق في التعليم هو مفتاح بقية الحقوق ؛ بدونه يبقى الإنسان حبيس العتمة واللافرص."ولهذا فإن التعليم ليس فقط حاجة فردية ، بل مشروع أخلاقي جماعي يسعى نحو عالم أكثر عدالة ، حيث يُعامل الناس وفق ما يعرفونه ويقدرونه ، لا وفق ما يُفرض عليهم.
رابعًا: التعلُّم كقيمة روحية لا تنتهي
في الإسلام، أول كلمة نزلت كانت: "اقرأ"، وهو توجيه عميق نحو مركزية المعرفة في تشكيل الوعي الروحي والوجودي.
وقد حثّ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على طلب العلم ، لا كواجب ديني فقط ، بل كوسيلة لتحرير العقل ، وتحقيق التوحيد الحق. يقول ابن القيم في "مفتاح دار السعادة":
"العلم حياة القلوب ، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ولذّة الأرواح."وبالتالي، فإن طلب العلم لا يرتبط بالمراحل الدراسية ، بل هو مسارٌ مستمر، لأنه مسارٌ نحو الله، ونحو الإنسان.
خامسًا: هل التعليم قادر على إنقاذ البشرية؟
في مواجهة التحديات العالمية اليوم : تغيّر المناخ ، الذكاء الاصطناعي، الفقر، التطرف... نكتشف أن الحلول السياسية والاقتصادية وحدها لا تكفي.
نحن بحاجة إلى ثورة تعليمية شاملة تعيد تشكيل العقل البشري على أسس جديدة : التفكير النقدي، التعاطف ، المسؤولية العالمية.وهو ما يتقاطع مع رؤية اليونسكو التي تدعو إلى "إعادة تخيّل مستقبل التعليم" عبر تقريرها الصادر بعنوان: "Reimagining Our Futures Together: A new social contract for education (2021)"
وفي الختام، التعليم ليس أداة للوظيفة ، ولا وسيلة للحصول على الشهادة فحسب ، بل هو رحلة وجودية نحو أن نصبح أكثر إنسانية.إنّ مستقبل الإنسان يتوقف على قدرته في أن يتعلّم كيف يتعلّم ، لا أن يحفظ ما يُملى عليه ،ومهما تغيّرت العصور، ستبقى المعرفة هي الطريق ، والتعلُّم هو النور، والتعليم هو الإطار الذي نحمل فيه إنسانيتنا نحو غدٍ أفضل.
حمى الله بلدنا الاردن وسائر بلدان العالم من شر دولة الشيطان الاكبر و اعوانه من شياطين الانس و الجان .