تحديات التشغيل في العاصمة تحت مجهر التحديث الاقتصادي
العين د. عبلة العماوي
28-10-2025 11:50 PM
تُعدّ محافظة العاصمة بوزنها الديمغرافي الذي يلامس 42.0% من إجمالي سكان المملكة مركز الثقل الديمغرافي والاقتصادي الذي سيحدد مسار "رؤية التحديث الاقتصادي 2023-2033".
إلا أن قراءة متأنية لبيانات مسح قوة العمل لعام 2022 والإسقاطات السكانية حتى عام 2033 تكشف عن اختبار حقيقي للإرادة السياسية: نمو كمي ضخم في أعداد المشتغلين يقابله اختناق قطاعي مقلق في نوعية الوظائف ومصادرها.
تحدي الزخم الديمغرافي: بين المخاطرة والفرصة
تشير الإسقاطات السكانية إلى أن محافظة العاصمة ستكون أمام ضغط ديمغرافي غير مسبوق يلامس مستويات خطرة على الضرورة الوطنية؛ إذ يُتوقع حسب السيناريوهات التي أعدّها الباحث استناداً إلى بيانات دائرة الإحصاءات العامة (مسح قوة العمل 2022) والإسقاطات السكانية الرسمية حتى عام 2033 أن يقفز عدد الذكور الأردنيين المشتغلين من نحو 497 ألفاً في عام 2022 إلى أكثر من 850 ألفاً بحلول عام 2033.
يمثل ذلك نمواً قدره 85.8% وزيادة تتجاوز 353 ألف فرصة عمل بالمحافظة خلال عقد واحد. والأكثر دلالة هو التحول الهيكلي في التوزيع النسبي، حيث من المتوقع أن ترتفع نسبة الذكور المشتغلين في محافظة العاصمة من 42.3% إلى 69.2% من إجمالي المشتغلين.
هذا التكثيف الهيكلي يثير تساؤلاً جوهرياً حول كفاءة الاستثمار وقدرة البنية التحتية والخدمات العامة على امتصاص هذا الزخم دون التحول إلى عبء، مع الإشارة إلى أن العاصمة تستحوذ وحدها على 42.7% من مجموع الذكور المشتغلين، مما يبرز بوضوح تحدي العدالة المناطقية وتوزيع فرص التشغيل.
التحول القطاعي: النافذة الزمنية للإصلاح الهيكلي
تُظهر بيانات عام 2023 تركّزاً كبيراً في التشغيل ضمن قطاعات محددة. إذ يتصدر قطاع الصناعات التحويلية قائمة الأنشطة بعدد 236,844 عاملاً (184,469 ذكوراً و 52,375 إناثاً)، يليه قطاع تجارة الجملة والتجزئة الذي يوظف 165,999 عاملاً. هذه الأرقام تكرّس الاعتماد على هذين القطاعين بوصفهما الركيزتين الأساسيتين للتشغيل المأجور، مع الحاجة إلى رفع إنتاجيتهما النوعية.
لكن تفكيك هذا النمو يكشف أن التحدي لا يتعلق بعدد الوظائف، بل بالتنوع الإنتاجي؛ إذ تتركز غالبية العمالة الذكورية في أربعة قطاعات فقط استحوذت عام 2022 على أكثر من 64.6% من إجمالي المشتغلين الذكور. فمثلاً لا تتجاوز مساهمة قطاع الزراعة 1.5% من التشغيل، والخدمات المالية 2.3% فقط (حسب بيانات دائرة الإحصاءات العامة 2022).
إدارة مخاطر التآكل القطاعي
تتآكل حصة القطاعات التقليدية بوضوح؛ حيث يتوقع أن يتراجع القطاع الحكومي (الإدارة العامة والدفاع) بمقدار 6.8 نقاط) مئوية حتى عام 2033، وهي رسالة واضحة بالتحول الهيكلي في التوظيف الحكومي الكثيف، استناداً إلى توقعات توزيع التشغيل ضمن رؤية التحديث الاقتصادي وإسقاطات الباحث لعام 2033.
يرافقه في هذا الانحسار قطاع تجارة الجملة والتجزئة الذي يسجّل تراجعاً تدريجياً بنسبة 2.7 نقطة مئوية، ما يعكس تحوّل السوق نحو نماذج أكثر تخصصًا وتقنية.
في المقابل، تتوسع قاعدة النمو في قطاعي الصناعات التحويلية والمعلومات والاتصالات، حيث ترتفع حصة الصناعات التحويلية إلى 18.4%، وقطاع المعلومات والاتصالات من 3.9% إلى نحو 6.7% عام 2033. هذا النمو يجعلهما الهدفين الاستراتيجيين لضخ الاستثمار النوعي.
ومع ذلك، يظل جمود التنويع كعقبة هيكلية السمة الأبرز في قطاعات حيوية أخرى يفترض أن تقود التنويع الاقتصادي، مثل الزراعة والخدمات المالية والمياه والطاقة؛ فرغم استقرارها النسبي، فإن فشلها في تحقيق الاختراق يضيّق آفاق التنمية المستدامة.
خارطة الطريق: حوكمة التحول واستثمار النوعية
بناءً على ذلك، لا يكمن التحدي في خلق فرص عمل جديدة فحسب، بل في تحقيق التوزيع المتوازن للتشغيل، وتعزيز التنقّل المهني من القطاعات المتراجعة إلى الصاعدة، وربط التعليم والتدريب بمتطلبات السوق المستقبلية.
إن نجاح محافظة العاصمة في ذلك سيكون اختبارًا حاسمًا للحوكمة الرشيدة لمدى قدرة الرؤية على تحويل النمو الكمي إلى تحول نوعي في هيكل الاقتصاد المحلي.
إن مستقبل التشغيل في المحافظة مرتبط مباشرة ببيئة الاستثمار الممكنة، ويتطلب قراراً حكومياً بوضع قطاعي الصناعات التحويلية والمعلومات والاتصالات على رأس أولويات الدعم الاستثماري.
ويتحقق ذلك عبر توجيه الدعم بحوافز نوعية لجذب الاستثمارات إلى هذه القطاعات المنتجة والواعدة، إلى جانب تشجيع الشراكات الفعالة مع القطاع الخاص في مجالات البنية التحتية والتقنيات الخضراء.
كما يجب التركيز على إعادة تأهيل الكفاءات عبر تعزيز برامج التدريب المهني والتقني وربطها بشكل مباشر بالمهارات الرقمية والمستقبلية لتمكين الشباب من الانخراط في الاقتصاد الجديد.
وثالثاً، تبرز إلزامية العدالة الإقليمية من خلال وضع مؤشرات أداء صارمة لضمان توزيع عادل للاستثمارات خارج العاصمة لكسر"مركزية التشغيل" وتحقيق تنمية شاملة، مع ربط هذه السياسات بمؤشرات أداء كمية لقياس الأثر على توليد فرص العمل النوعية حتى عام 2033.
لقد أثبتت البيانات أن محافظة العاصمة تمثل قلب الاقتصاد الوطني ومؤشر حيويته، وأن نجاحها في إدارة التحول سيحدد شكل التحديث الاقتصادي في المملكة ككل.