القلق النبيل .. في خطاب العرش الهاشمي الأمين
د. بركات النمر العبادي
29-10-2025 10:56 AM
حين يُصبح الخوف من الله مصدرًا للقوة
في زمنٍ امتلأت فيه صفحات التاريخ بخطاباتٍ مشبعةٍ بالبطش والفوقية و التعالي ، حين قال لويس الرابع عشر "أنا الدولة والدولة أنا"، وادّعى القذافي لنفسه المجد والتاريخ والثورة ، خرج علينا ملك من طينةٍ أخرى وبثوب و طنه ، لا يُشبه إلا ذاته المتجذّرة في عمق التاريخ الهاشمي والوجدان الشعبي الأردني.
الملك عبد الله الثاني ، لا يصنع من ذاته صنمًا ، ولا يرفع من مقامه مقامًا فوق البشر، بل يقف بصدق القادة الكبار ليقول جملة بسيطة ، لكنها تهزّ أركان الفهم التقليدي للقوة:
"الملك يقلق ، لكنه لا يخاف إلا الله ، ولا يهاب شيئًا ، وفي ظهره أردني ، وليست هذه الكلمات مجرد خطابٍ عابر، بل هي فلسفة حكم، ورؤية قيادة تؤمن أن الإنسان أقوى حين يقرّ بضعفه أمام الله ، وأعظم حين يرى في شعبه سندًا لا ديكورًا في مشهد السلطة.
القلق كفضيلة سياسية
في عالم السياسة ، نادرًا ما يُربط القلق بالحكمة ، لكن الملك عبد الله يعيد تعريف هذا الشعور، فهو لا يقلق لأنه يخاف ، بل لأنه يُدرك ثقل الأمانة ، لا يقلق لأنه يشك ، بل لأنه يُبصر بعمق ، هنا، يصبح القلق فعلًا أخلاقيًا ، دليلًا على حضور الضمير لا غيابه.
كم من زعيمٍ عبر العصور بَنَى سلطته على الخوف من الناس ، وكم من قائدٍ استمدّ عظمته من تسلّطه عليهم ! أما عبد الله الثاني ، فقد اختار طريقًا مُغايرًا : أن يستمدّ هيبته من إنسانيته ، وأن يجعل من التواضع جسرًا بينه وبين شعبه ، لا سورًا يُعلي به شأنه.
في ظهره أردني
العبارة التي قالها الملك "وفي ظهره أردني" ليست مجرد بلاغة خطابية ، بل بناء فلسفي لفهم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، لم يقل "شعبي خلفي" ، بل قال "في ظهري" ، وكأن الأردنيين هم الجدار الذي يتكئ عليه ، والدرع الذي يقيه ، والنبض الذي يمدّه بالقوة كلّما أنهكته المسؤولية.
هذه الجملة تفتح بابًا لفهم جديد للشرعية السياسية ؛ شرعية لا تقوم على الدستور فقط ، بل على الحب المتبادل ، وعلى عهد غير مكتوب ، لكنه محفور في دم الأردنيين وذاكرتهم الحية .
حين يكون الحكم عبادة والعرش كمسؤولية روحية
الملك لا يخاف إلا الله في هذا المعنى تتجلّى أعمق جذور العرش الهاشمي ، الذي لا يستمد سلطته من القوة المادية ، بل من إرثٍ روحيٍّ عريق، يرى في الحكم أمانة وعبادة ، لا استعراضًا ولا امتيازًا ، فسلالةُ النبوة ليست ترفًا وراثيًا ، بل اختبارٌ دائم في التواضع والعدالة، ومقياسٌ أخلاقي لما تعنيه السلطة حين تقترن بالقيم لا بالمكاسب.
الخاتمة: ما بين القائد والوجدان الشعبي
حين يقلق الملك، لا نراه في موضع الضعف ، بل في ذروة قوته الأخلاقية ، فالقلق هنا ليس اضطرابًا ، بل إحساسٌ عميق بحجم الأمانة الملقاة على كتفيه ، وهو لا يقلق بمعزلٍ عن شعبه ، بل يشعر بما يشعرون به ، وينبض كما ينبض قلب الأردني حين تشتد التحديات.
في عبارة الملك: "ولا يهاب شيئًا وفي ظهره أردني" تتجلى علاقة تتجاوز السياسة ، إنها رابطة وجدانية ، تاريخية ، وأخلاقية ، بين ملكٍ يعرف حجم الثقة التي أودعها شعبه فيه ، وبين شعبٍ يُدرك أن هذا العرش لم يُبنَ فقط على شرعية الدم ، بل على شرعية القلب.
ولذلك ، فكما قال الملك ، نقول نحن أيضًا:
نعم ، نقلق كما يقلق ، لأن القلق علامة الحريصين ، وإشارة الواعين ، لكننا لا نخاف ، لأننا نثق.
لا نهاب شيئًا ، لأننا لا نحمل الراية وحدنا ، ففوق رؤوسنا ملك هاشمي ، لا يتكئ على سلطته ، بل علينا . يحملنا في قلب ، ونحمله في قلوبنا ، ونقف في ظهره كما يقف هو في وجه العواصف.
نحميه بدمائنا ، وأحلامنا ، وبكل ما فينا من وفاء ، لأن بيننا وبين الهاشميين عهدًا لم يُكتب بالحبر، بل خُطّ في شرايين الوطن ، وسُطّر في ذاكرة الوفاء الوطني الأردني.
ولأننا نعرفه كما يعرفنا ، نردّ عليه اليوم بلسان كل أردني وأردنية:
سِرْ يا سيد البلاد ، فكلنا في ظهرك.
حمى الله الاردن ومليكنا وشعبه .