facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




امريكا الجديدة تبدأ من نيويورك


م. بسام ابو النصر
29-10-2025 12:59 PM

في غضون أيام قليلة، يتجه سكان مدينة نيويورك إلى صناديق الاقتراع لاختيار عمدة جديد لهذه المدينة التي تُعد واحدة من أكثر المدن حيوية وتأثيرًا في العالم، بل ومن بين أكثر خمس مدن اكتظاظًا بالسكان على وجه الأرض. إنّ نيويورك ليست مجرد مدينة، بل هي رمز للحلم الأمريكي ومركز القرار الاقتصادي والإعلامي والثقافي، وصوتٌ يعكس تنوّع الولايات المتحدة بكل ما فيها من اختلافات وتناقضات. ومع ذلك، فإن هذه الانتخابات تحديدًا تحمل طابعًا مختلفًا عن سابقاتها، إذ يشهد المشهد الأمريكي حدثًا استثنائيًا يتمثل في احتمال أن يتولى مسلمٌ منصب عمدة نيويورك، في سابقة تُعد من العلامات الفارقة في التاريخ السياسي والاجتماعي للولايات المتحدة.

قبل أكثر من عقدين من الزمن، وتحديدًا في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، استيقظت نيويورك على حادثة برجي التجارة العالمي التي غيّرت وجه العالم، وأدخلت علاقة الغرب بالإسلام في مرحلة من الشك والريبة، وتحوّلت تلك المأساة إلى لحظةٍ أثّرت في وعي الشعوب والحكومات على حد سواء. ومنذ ذلك اليوم، ظلّ الانتماء الإسلامي في الولايات المتحدة محاطًا بقدرٍ من الحذر والالتباس، حتى صار المسلم في كثير من الأحيان مطالبًا بإثبات براءته قبل الحديث عن كفاءته. واليوم، تأتي المفارقة العظيمة من المدينة نفسها التي كانت عنوانًا للألم، لتصبح على وشك أن تقدّم للعالم نموذجًا مختلفًا يعيد التوازن لصورة الإسلام والمسلمين، ويمنح نيويورك وجهًا جديدًا يعبّر عن التسامح والانفتاح والعدالة.

الاسم الذي يثير الاهتمام في هذه المرحلة هو الديموقراطي زهران ممداني، السياسي الأمريكي من أصول هندية، والمسلم الذي شق طريقه بثبات داخل أروقة السياسة المحلية في نيويورك. ينحدر ممداني من عائلة هندية ويعيش حياة تمثل نموذجًا للتعدد الثقافي الأمريكي، وهو متزوج من راما دواجي، وهي أمريكية من أصل سوري، ما يجعله أقرب إلى صورة "أمريكا الجديدة" التي تؤمن بالتنوع والاندماج لا بالإقصاء والتمييز. ما يميز ممداني ليس فقط خلفيته الدينية أو العرقية، بل خطابه الإنساني المتوازن ومواقفه الأخلاقية التي تتسق مع قيم العدالة والحرية، وقد عبّر مرارًا عن مواقفه المؤيدة للقضية الفلسطينية، متحدثًا عن العدالة بلغة عقلانية تجمع بين البعد الإنساني والرؤية السياسية الواعية. إنه لا يقدّم نفسه كمرشح مسلم بقدر ما يقدّم نفسه كإنسان يؤمن بأن الانتماء الديني ليس هوية سياسية، بل منظومة قيم تدعو إلى احترام الإنسان، وإعلاء الكرامة، ونصرة المظلوم أياً كان دينه أو عرقه.

ويأتي هذا التحوّل في لحظة فارقة بعد حرب غزة الأخيرة التي تركت أثرًا عميقًا في الوعي الأمريكي، خصوصًا لدى الأجيال الشابة والطبقات المثقفة ووسائل الإعلام الحرة. فقد بدأت شريحة واسعة من الأمريكيين ترى الصراع في الشرق الأوسط بعيون مختلفة، وأدركت أن الحقيقة لا تُختزل في الروايات الرسمية أو الإعلام الموجَّه. وشيئًا فشيئًا، ظهرت موجة جديدة من التعاطف مع المظلومين، ومعارضة لسياسات الكيل بمكيالين. ومن هذا المنطلق، قد يكون انتخاب مسلم لمنصب عمدة نيويورك بمثابة رسالة رمزية عميقة تعبّر عن رغبة الأمريكيين في مراجعة مواقفهم الأخلاقية والإنسانية، وإعادة الاعتبار لقيم العدالة التي تأسست عليها بلادهم.

وإذا عدنا قليلًا إلى الوراء، فإننا لا ننسى تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حين وجّه انتقادات لاذعة لعمدة لندن المسلم صادق خان، متسائلًا عن قدرة المسلمين على إدارة مدن غربية كبرى. واليوم، من المفارقة أن الولايات المتحدة نفسها تقترب من أن ترى مسلمًا آخر يقف على رأس أكبر مدنها، في مشهد يعبّر عن التحول العميق في المزاج الأمريكي وعن نضوج التجربة الديمقراطية فيها. فالقوة الحقيقية لأمريكا لم تكن يومًا في سلاحها ولا في اقتصادها، بل في قدرتها على التغيير والتجدد والاعتراف بالآخر.

لقد قال ترامب ذات يوم إنه يريد "أن يجعل أمريكا عظيمة من جديد"، وربما لم يدرك أن العظمة لا تُقاس بالقوة العسكرية ولا بالهيمنة الاقتصادية، بل بالقدرة على الإنصاف واحترام التعدد وقبول المختلف. اليوم، الشعب الأمريكي نفسه هو من يعيد تعريف معنى العظمة، حين يفتح الأبواب أمام وجوه جديدة تمثل الضمير الإنساني لا الانتماء الطائفي. فإذا ما اختار الناخبون في نيويورك زهران ممداني ليكون عمدة مدينتهم، فإنهم لا يمنحون أصواتهم لشخص فحسب، بل يكتبون فصلًا جديدًا في التاريخ الأمريكي، فصلًا عنوانه أن العدالة لا دين لها، وأن الحلم الأمريكي لا يكتمل إلا حين يصبح متاحًا للجميع.

وبعد أكثر من عشرين عامًا على مأساة سبتمبر، قد تعود نيويورك لتدهش العالم مرة أخرى، لا بالدمار ولا بالألم، بل بقدرتها على الشفاء والتجدد والاختيار الواعي. وهكذا تثبت التجربة الأمريكية أن الديمقراطية الحقيقية لا تعني مجرد تداول السلطة، بل تعني في جوهرها أن تمنح الفرصة لمن كان يومًا موضع شك، ليصبح اليوم رمزًا للأمل والتغيير والعدالة. فحين يختار الناس بإرادتهم الحرة من يختلف عنهم في الدين أو العرق ليقودهم، يكونون قد بلغوا ذروة الوعي الإنساني، ويكونون بالفعل قد جعلوا أمريكا عظيمة — لا بشعاراتها، بل بعدالة شعبها.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :