استقرار على حافة الانهيار
م. عامر البشير
31-10-2025 10:09 AM
*الاستمرار بلا إنجاز .. فلسفة العجز المقنّع
في بعض مؤسساتنا، ثمة مسؤولون يطيلون الجلوس على مقاعدهم حتى يكاد الكرسي يبتلعهم، حضورهم لا يقوم على أثرٍ أحدثوه أو إصلاحٍ سيتركوه، بل على عادة الزمن التي جعلت طول البقاء شرعية بحدّ ذاته، إنها شرعية بلا إنجاز، واستقرار زائف يُنسج من خيوط الخمول، حضورٌ يتكئ على العادة لا على الفعل.
لقد أصبح الاستمرار زمنًا فارغًا يستهلك المؤسسة بدل أن يضيف إليها، حتى أصبح المسؤول يعتقد أنّ الجلوس الطويل إنجاز في حدّ ذاته، وكأن الديمومة تعني النجاح، بينما هي في حقيقتها مجرد امتداد للغياب؛ فالتجربة لا تتعدى كونها حضورًا يوميًا للعمل، بلا أي إنجاز، مشهد يتكرر آلاف الأيام.
غياب التحوّل وتآكل المكان
سنوات مرّت دون أثرٍ يُذكر سوى ديون متفاقمة وتحوّل رقمي شكلي يُسوّق على أنه إنجاز وهو في الحقيقة مضمون هشّ وكلمة حق مخرجها باطل.
السمعة المؤسسية تترنّح وتتآكل، والاستمرار بلا تحوّل بات أشبه بنهر جافّ؛ مجرى مثقل بالحجارة لكنه بلا ماء.
لم يكن الغياب مجرد تقصير إداري، بل تحوّل إلى فلسفة كاملة جعلت من الكرسي غايةً في ذاته، ومن تراكم الأيام الخاوية بديلًا عن الفعل الجاد.
الاستقرار الوهمي
هذا التمسك بالموقع رُوّج على أنه استقرار، لكنه في الحقيقة استقرار على حافة الهاوية، السنوات انزلقت كما ينزلق الرمل في ساعة مقلوبة؛ تملأ الزمن لكنها لا تترك أثرًا.
وما قُدّم للناس بوصفه استقراراً، لم يكن سوى هشاشة مؤجّلة، ستارًا يخفي ارتباكًا وعجزًا أعمق من أن يُعالَج.
الدين.. من رقم إلى مرآة للأزمة القيمية
لم يعد الدين مجرد أرقام في دفاتر الحسابات، بل صار مرآة تكشف غياب الرؤية وخلل القيم معًا، فالاقتراض، الذي يُسوّق كحلّ مالي، لم يكن إلا هروبًا لا أخلاقيًا من مواجهة حقيقة الفشل، ومسكنًا يُخدّر الحاضر ويزرع المرض، وسيشكّل جدارًا مانعًا لأي تقدّم في المستقبل، سيدفع ثمنه لعقود، كل قرض مالي كان انعكاسًا لدَينٍ قيمي على المؤسسة أمام مجتمعها؛ دين في رقاب العباد قبل أن يكون في الدفاتر.
لقد أصبح الدين رمزًا لعجز الإدارة عن تحمّل مسؤوليتها تجاه الناس، وعن مواجهة مشكلاتها بجرأة.
السمعة، رأس المال الحقيقي
السمعة هي رأس المال الأثمن لأي مؤسسة، لأنها خلاصة القيم التي تجسدها في سلوكها وقراراتها.
حين انهارت السمعة، لم يكن ذلك بسبب الأرقام وحدها، بل بسبب انهيار أعمق في المنظومة الأخلاقية، حين غاب الصدق حلّ التبرير، حين غابت الكفاءة حضرت الزينة، حين هُمِّش النقد تقدّم التملّق.
هكذا تحولت المؤسسة من كيان يخدم المجتمع إلى واجهة جوفاء تلهث خلف المظاهر.
وحين تسقط السمعة تسقط معها الثقة، وحين تضيع الثقة لا ينفع أي رصيد مالي أو شكلي، الثقة شعور يسكن الضمير البشري، وهي رأس المال الحقيقي الذي إن انهار، انهارت معه كل جدران البقاء.
الإنسان والمكان ... وهم التماهي
توهّم المسؤول أنه هو من صنع الكرسي، وأن المؤسسة انعكاس لشخصه، لكن المكان كان يتآكل، والكرسي لم يعد يرمز إلى سلطة بل إلى فراغ.
طول الجلوس صنع أسطورة "الظلّ الجالس"، صورة جامدة تُخدع بها العيون على أنها استقرار، بينما هي في حقيقتها خواء ممتد لا يخلّف سوى الصمت.
الاستمرارية في مواجهة الإنجاز
المأساة لم تكن في شخص واحد، بل في فلسفة كاملة رفعت الاستمرارية فوق الإنجاز، والديمومة فوق التحوّل، تحوّلت المؤسسة إلى مرآة للغياب، غياب الرّؤية، ديون متضخمة، سمعة منهارة، ذاكرة مثقلة بجراح العجز.
دروس من العالم
التجارب العالمية تثبت أن البقاء يمكن أن يكون جسرًا للتجديد لا شاهدًا على الجمود:
• برشلونة: أعادت هيكلة نظامها البلدي عبر شراكات محلية واستثمارات في البنية الحضرية، فتحولت من مدينة غارقة في الأعذار إلى نموذج عالمي مع أولمبياد 1992.
• سنغافورة: جعلت استقرارها الإداري محرّكًا لإصلاحات شاملة في الصرف الصحي والإسكان والحدائق العامة، فحوّلت الزمن إلى رصيد لا إلى عبء.
• إسطنبول: أثبتت أن طول البقاء لا يعني الجمود، إذ استُخدم كمنصة لإصلاحات جذرية في النقل وإدارة النفايات والبنية التحتية.
أما عندنا، فحين تنغلق المؤسسات على ذاتها، يتحول الزمن من فرصة إلى عبء، ومن استمرارية إلى شاهد على العجز.
الماء ... مرآة الاستقرار الوهمي
في المشهد ذاته يطلّ ملف المياه كمرآة أخرى لـ"الاستقرار الوهمي".
تُدار ثروة الحياة بعقلية المسكّنات؛ مشاريع صغيرة متفرقة تُعلَّق على جدار الحكومات المتعاقبة، كإنجازات، فيما الحقيقة أنّ الشبكات متآكلة وهدر المياه ما زال مستمر.
هكذا يغدو ما يُسمّى بالاستقرار المائي قناعًا هشًّا يخفي أزمة وجودية، لا أزمة خدمات فحسب، أزمة تذكّرنا بأن بقاءنا ذاته معلّق بخيطٍ رفيع بين إدارة عاجزة وعطشٍ يتّسع يومًا بعد يوم، في ظلّ تأخر تنفيذ الناقل الوطني.
كراسٍ تبتلع الدولة… وموظفون بلا أثر
في بعض دول الإقليم، تُنجز الحكومات في عام واحد ما يوازي عقودًا من التنمية، بينما نحن نستهلك أعمارنا في متابعة موظفين لا يتغيّرون، ووجوهٍ جاثمة على قلوبنا كأنها خُلقت لتبقى لا لتُنجز.
لقد تحوّلت بعض المناصب العليا في الإدارة الأردنية إلى إقطاعيات شخصية، مدير عام يلازم مكتبه عقدًا كاملًا بلا إصلاح، وأمين عام يورّث الكرسي كأنه جزء من ميراث عائلي، ورؤساء دوائر يقيسون إنجازهم بعدد سنوات البقاء لا بوزن ما تحقق. هؤلاء لا يديرون المؤسسات، بل يُخدرونها؛ يوزّعون الوقت كما يوزّع الدواء المسكّن، ويُغرقون الوطن في روتين قاتل.
هذا ليس استقرارًا، بل موتٌ سريري. ليس خبرة، بل عجزٌ مُمأسس. والكارثة أنّ بعض الحكومات ترفع هؤلاء على أنهم "رجال دولة" بينما هم في الحقيقة مجرّد عقبة في طريقها.
إنّ الكرسي العام ليس وسيلة للاحتكار، ولا منصة للتشبّث، ولا بطاقة دائمة للإقامة في المكاتب المكيفة. من يجلس عليه دون إنجازٍ ملموس إنما يسرق من وقت الوطن، ويحمّل الأجيال القادمة أثمان فشله.
الخاتمة
الخطر على المؤسسات ليس في سقوطها المفاجئ، بل في موتها البطيء حين يُساوى البقاء بالإنجاز، وحين يتحوّل مرور الأيام إلى بديل عن الفعل الحقيقي.
فالكرسي إن لم يكن أداة إصلاح يصبح شاهد قبر لمؤسسة ماتت تحت لافتة زائفة اسمها "الاستقرار".
غير أنّ التاريخ يذكّرنا بأن الكرسي يمكن أن يكون منبر حياة إذا استُخدم للإصلاح لا للفراغ، وهنا تكمن المسؤولية، محاسبة تجعل المنصب مرتبطًا بالمساءلة، تجديد يضخ دماء جديدة، ثقافة إنجاز تجعل معيار البقاء هو الأثر لا طول البقاء، من دون ذلك سيظل الاستقرار قناعًا هشًّا، والوطن يقرأ على جدران مؤسساته مراثي العجز بدل أن يكتب قصائد النهوض.
في النهاية، لا يُرثى الوطن بل يُستنهض؛ وما لم تتحوّل النظرة للكرسي أنها وسيلة بعث جديد، سيبقى الوطن يئنّ تحت عبء جالسين لم يدركوا أن الاستمرار بلا أثر ليس سوى موت بطيء في ثوب البقاء.
*فلا بقاء بلا أثر، ولا استقرار بلا إصلاح.*
يأتي هذا المقال في إطار نقدٍ بنّاءٍ لسياسات الإدارة العامة، دفاعًا عن قيم الشفافية والعدالة، واحترامًا لمبدأ سيادة القانون، دون أن يستهدف أي جهة أو شخص بعينه. فالنقد هنا دعوة للإصلاح لا خصومة، وللمساءلة لا للاتهام
المهندس عامر البشير