تأملات وطنية في المصير الأردني .. اضاءة على خطاب العرش
د. بركات النمر العبادي
02-11-2025 10:41 AM
خطاب العرش السامي هذا العام جاء في لحظة مفصلية داخليًا وإقليميًا ، وقدّم جلالة الملك خريطة طريق متكاملة للمرحلة القادمة، مبنية على الشراكة والوضوح والمسؤولية ، وكان مفتاح الخطاب: "البناء الوطني لا يتحقق إلا بالشراكة والوعي والإرادة"، وهي ثلاثية تؤكد أن التطوير ليس مهمة الحكومة وحدها ، بل هو عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع.
وفي عالمٍ يموج بالتحوّلات ، حيث تتهدد الدول من داخلها لا من خارجها، جاء خطاب العرش الأخير لا ليشرح سياسةً ، بل ليعيد صياغة سؤالنا الجوهري:
"ما معنى أن تكون دولة ؟ وما معنى أن تكون مواطنًا ؟"
لقد خرج الخطاب عن ضجيج التفاصيل ، ليعيدنا إلى جوهر الفكرة الأردنية: الإنسان ، والإرادة ، والزمن.
أولاً: الإنسان كمركز للوجود الوطني
جلالة الملك لم يتحدث عن الإنسان بوصفه رقمًا في سجل الدولة ، بل ككائن حرّ، عاقل ، مسؤول ، هو غاية الدولة لا وسيلتها.
"كرامة الإنسان لا تُستمد من الدستور، بل يستمد الدستور شرعيته منها."
في فلسفة الخطاب ، الإنسان هو المعنى ، والدولة هي الأداة ، الدولة التي تفشل في صون الإنسان، تفقدت حقها في الوجود ، هذا تحوّل جذري : من الدولة "المُلك" إلى الدولة "الرسالة".
ثانيًا: السياسة كفنٍ أخلاقي ، لا مناورة سلطة
السياسة ، كما طرحها الخطاب ، ليست صنعة ميكافيلية ، بل منظومة أخلاقية تستمد معناها من الصدق والتمثيل. الأحزاب ، في هذا الفهم ، ليست آلات انتخابية ، بل تجسيد لإرادة الجماعة ، وأصوات للمهمّشين ، وضمير للشارع.
" ليست الغاية أن نحكم ، بل أن نُعبّ ؛ أن نُصغي ؛ أن نُداوي جراح المجتمع لا أن نُخفيها وراء الشعارات." و الإصلاح السياسي هنا ليس عملية مؤسسية فقط ، بل رحلة تطهير جماعي من الفردانية والاحتكار والمصالح الضيقة.
ثالثًا : الاقتصاد كتحرّر من الحاجة ، لا كمجرد نمو
الخطاب لم يعِد بمزيد من الموازنات ، بل أشار إلى نقلة وجودية في العقل الاقتصادي الأردني:
"من اقتصاد قائم على التوقّع... إلى اقتصاد يقوم على الإنتاج والمعرفة" ، التحول هنا يشبه التحول من الحياة البيولوجية إلى الحياة الواعية ، من أن نأكل لنعيش ، إلى أن نخلق لننمو.و الاقتصاد في فلسفة الخطاب هو مسعى للتحرر من الخوف ، من التبعية ، من الفراغ ، إنه اقتصاد يصنع الإنسان لا فقط يطعمه.
رابعًا: الإدارة كمرآة للعدالة
في كل مؤسسة حكومية ، يوجد سؤال دفين لا يُسأل: "هل يشعر المواطن أنه يُعامَل بعدل؟"
الخطاب حوّل هذا السؤال إلى معيار للشرعية الإدارية ، فالزمن لا يرحم الإدارات الكسولة ، والكرامة لا تتعايش مع بيروقراطية عقيمة،
الإدارة في الخطاب ليست تنظيمًا ، بل فضاء أخلاقي يجب أن يُنظّف من الريبة والفساد والبلادة.
خامسًا: القضية الفلسطينية – أخلاق الجغرافيا
جلالة الملك لا يكرّر نفسه حين يتحدث عن فلسطين ، بل يُذكّرنا أن وجودنا في هذا الشرق محكوم بمنظومة قيمية:
• العدالة ليست خيارًا.
• الوقوف مع الحق ليس موقفًا ، بل هوية.
• الحياد في المأساة خيانة.
"ثبات الأردن ليس موقفًا دبلوماسيًا ، بل هو تعبير عن جوهره الأخلاقي."فإذا فقد الأردن هذه البوصلة ، فقد روحه.
أخيرًا : الدولة ككائن حيّ
الخطاب يرى الدولة ككائن حيّ:
• لها روح (القيادة الهاشمية والشرعية التاريخية)،
• ولها جسد (المؤسسات)،
• ولها ضمير (الشعب)،
• ولها عقل (الرؤية).
والدولة الحيّة ليست تلك التي تنجو فقط ، بل التي تصنع معنىً من وجودها ، وليست وظيفة خطاب العرش أن يُرضينا، بل أن يُوقظنا."
هذا الخطاب ليس وثيقة سياسية فقط، بل دعوة للتفكّر الجماعي:
• كيف نكون أردنيين بطريقة أعمق؟
• كيف نُصلح الدولة دون أن نُخربها؟
• كيف نحفظ الهاشمية دون أن نحني ظهورنا؟
• كيف نصنع دولة تليق بما نحلم أن نكونه؟
خاتمة وجودية : سؤال الهوية... ما الذي يجعلنا أردنيين؟
في زمن العولمة المتوحشة ، والذوبان الثقافي ، وانكماش الجغرافيا أمام فيضان المعلومات، لم يعد التهديد الأكبر للدول هو الاحتلال، بل النسيان.
نسيان من نحن. نسيان كيف بدأنا، ولماذا صمدنا.
وها نحن نسأل، في ضوء خطاب العرش، لا كمجرد مواطنين، بل كمفكرين:
"كيف نحافظ على الهوية الوطنية الأردنية؟"
الهوية ليست محفوظات... بل ممارسة يومية
الهوية ليست شعارًا يُطبع في المناهج، أو علَمًا يُرفع فوق المباني.
إنها ممارسة يومية للقيم المؤسسة للدولة:
• الكرامة.
• النزاهة.
• الوفاء للتاريخ.
• الانتماء للإنسان.
الهوية تُولد في سلوك الموظف ، في نزاهة التاجر، في صدق الإعلامي، وفي عدل القاضي.
كل خيانة صغيرة للقيم ، هي ثقب في جدار الهوية ، أن تكون أردنيًا ، لا يعني فقط أن تحمل رقماً وطنياً ، بل أن تحمل الوطن في قلبك، وتفكر في مستقبله كما تفكر في مستقبلك."
الهوية الوطنية ليست إرثًا نحمله، بل أمانة نُسلّمها،هي قصة نُكمل كتابتها ، لا نُغلق صفحاتها.
هي وعدٌ للماضي ، والتزامٌ بالحاضر، ورؤيةٌ للمستقبل. وإذا كان خطاب العرش خارطة طريق للنهضة ، فإن الحفاظ على الهوية هو البوصلة التي تضمن ألا نضيع الطريق مهما اشتدّت العواصف
حمى الله الاردن و سدد خطى قيادته وشعبه نحو الأمن والسيادة والكرامة