facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الهندسة الثقافية


د. ماجد الصمادي
04-11-2025 11:26 AM

لم تكن هيمنة التيار الديني السياسي على المشهد العربي منذ ثمانينيات القرن الماضي مجرد تحوّل أيديولوجي أو نتيجة لتقلبات سياسية عابرة، بل جاءت كحصيلة لتراكم طويل من التغلغل في النسيج الثقافي والاجتماعي، حتى أصبح هذا التيار يمثل ما يشبه البداهة لدى شرائح واسعة من المجتمعات العربية. فبعد تراجع المد القومي وهزيمة اليسار، وُلد فراغ أيديولوجي وروحي هائل، استطاعت الحركات الدينية أن تملأه، لا من خلال القوة المباشرة فقط، بل عبر بناء سردية ثقافية متكاملة تبرر وجودها، وتمنحها شرعية معنوية، وتُعيد تشكيل الوعي الجمعي في اتجاه يخدم مشروعها.

تمكّن هذا التيار من إعادة إنتاج مفاهيم الحياة اليومية انطلاقًا من رؤيته الدينية الخاصة، حتى أصبحت ثنائية الحلال والحرام إطارًا مرجعيًا عامًا لتفسير الواقع، وعدسة يُعاد من خلالها تأويل كل القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

هذا التحول لم يكن نتاج صدفة، بل نتيجة عمل دؤوب وممنهج على مستوى البُنى الناعمة في المجتمع: التعليم، الإعلام، الخطاب الديني، الثقافة الجماهيرية، وحتى الفضاء العام. تسلّلت الرؤية العقائدية إلى المناهج الدراسية، التي غُيّبت منها مواد التفكير النقدي والعلوم الإنسانية الجدلية، وأُعيد تشكيلها لتُكرّس رؤية تُختزل فيها الهوية في بعد واحد: ديني، مغلق، ومتصلب.

في الإعلام، احتل الدعاة الجدد الشاشات وأصبحوا نجومًا ثقافيين يملكون سلطة رمزية تفوق أحيانًا سلطة السياسيين أنفسهم. قدّموا خطابًا بسيطًا، عاطفيًا، لكنه فاعل في تشكيل وجدان جيل كامل، إذ مزج بين الدين والهوية، بين الحاجة والقداسة، ونقل السياسة من ميدان المصلحة إلى ميدان العقيدة، ومن جدل الواقع إلى وعظ المثال. ومن خلال العمل الخيري والمبادرات المجتمعية، استطاعت هذه الحركات أن تربط بين حاجات الناس اليومية وخطابها الديني، فخلقت علاقة ولاء متينة، ليست قائمة على الإقناع العقلاني بقدر ما هي مبنية على الامتنان والارتباط العاطفي.

هكذا تشكّل وعي جديد يرى في الجماعات الدينية ليس فقط تيارًا دينيًا أو سياسيًا، بل هوية جمعية، وصورة أصلية عن الذات، في مقابل الآخر المشيطن المتهم بالعلمنة والفساد والاغتراب عن الدين. وفي هذا الإطار، تم تهميش الأصوات العقلانية، النقدية، والحداثية، وتعرضت محاولات إنتاج خطاب مغاير للشيطنة، أو على الأقل للتهميش، بما يعزز من قبضة الرؤية الأحادية التي تفرضها هذه التيارات.

لم يعد التدين خيارًا شخصيًا، بل تحول إلى ميثاق جمعي، ومنظومة قيم مفروضة، تمارس رقابة اجتماعية صارمة على الأفراد، وتُعيد ترسيم حدود المباح والمحظور في كل مفاصل الحياة.

ومع الوقت، لم تعد هذه الرؤية تكتفي بالحضور الثقافي، بل بدأت تصوغ شروط السياسة، وتفرض أجندتها حتى داخل مؤسسات الدولة، متحوّلة من حركة احتجاجية إلى مرجعية ضاغطة، بل وصانعة للشرعية. وباتت بعض هذه الجماعات تمتلك تأثيرًا فعليًا في صياغة السياسات التعليمية والإعلامية، بل وأحيانًا في تشريع القوانين. في هذا المناخ، انغلقت المخيلة العربية ضمن ثنائية قاتلة:
إما سلطات استبدادية فاسدة، أو معارضة دينية أخلاقية،

وكأن التاريخ قد أغلق بابه على هذين الخيارين فقط. وهنا يكمن المأزق؛ إذ أُفرغ الفضاء العام من إمكانيات التنوع، وصارت كل محاولة لبناء مشروع ثقافي مختلف تُواجَه بالتخوين أو التكفير أو الإقصاء.

لكن الهيمنة، مهما بدت قوية ومتماسكة، ليست قدرًا نهائيًا. فما بُني على الهندسة المنظمة يمكن تفكيكه عبر إنتاج معرفة بديلة، وخطاب جديد يعيد الاعتبار للعقل، وللتعدد، وللحس النقدي. فالثقافة ليست مجرد انعكاس للسلطة، بل هي ميدان الصراع الحقيقي على الوعي والمستقبل. وبهذا المعنى، فإن مقاومة هذا النمط من السيطرة لا تكون بالشعارات أو العنف المضاد، بل بإعادة بناء مشروع ثقافي جذري، قادر على استعادة الناس من قبضة التبسيط والتقديس، ودفعهم نحو مساءلة كل ما يبدو بديهيا او طبيعيا، لأنه في جوهره نتاج هندسة ثقافية طويلة الأمد.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :