سؤال يتردد في ظل النقاش الدائر حول مسار التحديث السياسي الذي تسعى إليه الدولة الأردنية منذ سنوات. فالتحديث السياسي هو عملية تطوير النظام السياسي ليصبح أكثر كفاءة وشفافية وعدالة ومشاركة، وتختلف عناصره وأوجهه من دولة إلى أخرى بحسب بنيتها الاجتماعية والسياسية.
ففي بعض الدول ذات النسيج الاجتماعي الهش مثل الكيان المحتل ودول غربية اخرى الذي يضم أفراداً من خلفيات متنافرة اجتماعياً وعرقياً وعقائدياً، كان تعدد الأحزاب وسيلة لاحتواء التناقضات وتشكيل حواضن جامعة لهم تسهم في استقرار النظام إذ سجل منذ عام 1948 أكثر من مئتي حزب، ما يعكس الحاجة إلى التنظيم السياسي كبديل عن غياب النسيج والانسجام الاجتماعي. فالأحزاب هناك تؤدي وظيفة بناء هوية سياسية جامعة وليس هوية وطنية وتوسيع قاعدة المشاركة وتداول السلطة وتمثيل مختلف الفئات في مؤسسات الحكم.
غير أن هذه النماذج لا يمكن إسقاطها بالضرورة على الحالة الأردنية التي تمتاز بطبيعة اجتماعية وسياسية خاصة. فقد نشأت الدولة الأردنية على أساس توافقي لا أيديولوجي، قائم على التحالف بين مكونات المجتمع من قبائل وعشائر وعائلات وديانات وأعراق مختلفة، ما جعلها دولة قائمة على الوفاق لا على الصراع الفكري أو الطبقي. ويُعد من أبرز أسباب استقرار الأردن السياسي أنه دولة براغماتية أكثر من كونها أيديولوجية، أي أنها تبني قراراتها على ما هو ممكن ومفيد ومناسب للواقع، لا على النظريات والمفاهيم الفكرية. ويغلب على المجتمع الأردني الطابع العملي والمعيشي، مما يجعل من الصعب تكوين أحزاب ذات برامج فكرية واضحة، ويحد من القابلية العميقة لنمو الحياة الحزبية.
فالعشيرة في الأردن، على اختلاف منابت أبنائها وديانتهم وأصولهم، تؤدي وظيفة التمثيل السياسي والاجتماعي، ويأتي الولاء الاجتماعي قبل الولاء الحزبي، ويحل الاستقرار التقليدي محل التنظيم السياسي، ما يجعل الحاجة إلى الأحزاب في الأردن أقل من حيث الوظيفة الاجتماعية والسياسية.
ان هذا الواقع المميز تاجه ودرته فلسفة الحكم الهاشمي التي قامت على احتضان جميع المكونات دون تمترس أيديولوجي، وعلى التسامح وقبول الآخر وتوسيع قواعد المشاركة السياسية ضمن إطار وطني عادل.
لقد أمضى الأردن عقوداً في إدخال تعديلات تشريعية وقانونية، خاصة على قوانين الاحزاب والانتخابات والإدارة المحلية وغيرها ، لكن النتائج على أرض الواقع ما زالت محدودة، إذ لم تترجم الرؤية الملكية الشاملة للتحديث إلى واقع ملموس، وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى الحاجة إلى الاعتماد على الأحزاب كوسيلة للإصلاح والتحديث السياسي.
إن الهدف من مناقشة هذا الموضوع ليس الانتقاص من أهمية التحديث أو العودة إلى الوراء، بل الوقوف على الواقع وتحليله بموضوعية. فالحياة الحزبية في الأردن تواجه تحديات اجتماعية وثقافية عميقة تجعل من نموها مساراً طويلاً وشاقاً. ومع وجود الكفاءات الوطنية والسياسية القادرة على الإسهام في بناء الدولة، إلا أن الطريق الحزبي قد لا يكون الوسيلة الأكثر فعالية للوصول إلى التمثيل والمشاركة. ويمكن التفكير ببدائل واقعية كتوسيع قاعدة المشاركة من خلال زيادة عدد أعضاء مجلس النواب إلى نحو مئتي عضو مثلاً، وتوسيع مفهوم الكوتا ليشمل فئات جديدة مثل الشباب، إضافة إلى تشكيل الحكومات من رحم البرلمان عبر التكتلات السياسية لا الأحزاب بالضرورة. ومع استمرار الجدل حول دور وزارة التنمية السياسية في ظل تعدد اللجان والهيئات المستقلة، يبقى السؤال مفتوحاً حول ما إذا كانت البنية الاجتماعية والسياسية الأردنية مؤهلة فعلاً لنظام حزبي قوي، أم أن الاستقرار القائم على التوافق والبراغماتية كفيل بتحقيق التحديث بوسائل أخرى.
يبدو أن الإجابة تكمن في فهم طبيعة الأردن الواقعية، فالتجربة الحزبية قد تبقى محدودة مهما طال الزمن ليس رفضاً للديمقراطية، بل انسجاماً مع الخصوصية الأردنية التي جعلت من الوحدة الوطنية والمرونة السياسية أساساً للاستقرار والتطور التدريجي المتوازن.