ماذا يريد الملك من القضاء؟
جمال القيسي
09-11-2025 03:22 PM
تعلن زيارة جلالة الملك عبد الله الثاني للمجلس القضائي وتوجيهه بتشكيل لجنة لتطوير القضاء أن ملف العدالة هو على رأس أولويات الدولة، وأن تطوير منظومة القضاء هو عنوان سياسي وسيادي أصيل، ومدخل حقيقي لترسيخ ثقة الناس بحق التقاضي، وبناء بيئة جاذبية للاستثمار.
على مؤشر سيادة القانون العالمي (WJP 2023) جاء الأردن في المركز 61 عالميا، بينما تأتي الدنمارك في المركز الأول، وتليها النرويج وفنلندا والسويد ضمن الدول الخمس الأولى. الفرق هنا ليس في التشريعات وحدها، بل في كيفية تشغيل مرفق العدالة واحترام الإنسان وتوفير بيئة عمل ملائمة للقاضي والمتقاضين.
بحكم انتسابي لنقابة المحامين منذ ثلاثين عاما، ومن خلال خبرتي وعملي كمحام ترافع في غالبية محاكم وأقاليم المملكة؛ فإني أعرف واقع المحاكم جيدا، وأستطيع أن أرسم لها صورة من قرب؛ تبدأ من الغرف الضيقة للتقاضي، وقوائم القضايا المتراكمة، والازدحام الخانقة داخل المحاكم وحولها، وغياب قاعات الانتظار المناسبة، إضافة إلى غياب خصوصية المواطنين أثناء الشهادة والمراجعة والمتابعة، مع غياب المرافق الصحية اللائقة. إضافة إلى بيئة عمل خانقة تستهلك القاضي نفسيا ومهنيا؛ المجبر في هذه البيئة المنهكة، يوميا وفي الإجازات، على حمل ملفات القضايا إلى منزله لدراستها وتدقيقها وإصدار القرارات الإعدادية والأحكام.
إن أي حديث عن ضرورة سرعة الفصل في القضايا منعا لتأبيد المنازعات يصبح بلا معنى إذا تحوّل إلى ضغط نفسي هائل على القاضي؛ إذ لا يستقيم، منطقا وعمليا، أن نطالبه بجودة الأحكام مع حرمانه من مهلة التدقيق والاستماع الكافي. السرعة المتوخاة في البت بالقضايا لا تتحقق بالضغط النفسي على القضاة؛ بل بزيادة الكادر القضائي المتخصص من المؤهلين الأكفياء، وأن يتم تعيينهم وفق معايير نزيهة وشفافة وعلى أسس الكفاءة البعيدة عن نوافذ الواسطة والمحسوبية، وضمن بنية تحتية ملائمة تتوخى أسس الإدارة القضائية الحديثة.
إن تحسين بل ترقية الوضع المعيشي للقضاة هو شرط لضمان استقلالهم؛ فلا بد من التحسين الحقيقي لرواتبهم، وحصولهم على الإعفاءات الجمركية لسيارات تليق بمكانتهم الاجتماعية، وكذلك يجب العمل على تمكينهم من التسهيلات الإسكانية والبنكية والتعليمية، وهذه ليست مزايا اجتماعية ووظيفية، بل هي الخطوة الأولى نحو مبدأ استقلال القضاء؛ فالقاضي المحصن اجتماعيا وماديا هو القاضي المستقر حقيقة، والقادر على الاستماع والتدقيق ووزن البينات وإصدار الأحكام بهدوء وإبداع.
لم تحتل الديمقراطيات المتقدمة المراتب الأولى في سيادة القانون من باب الصدفة؛ بل لأنها جعلت القاضي مركز منظومة العدالة، وحمت مواطنها داخل منظومة العدالة منذ لحظة دخوله إلى المحكمة وحتى خروجه منها، والنمو الاقتصادي هناك ليس منفصلاً عن قوة القضاء؛ فالاستثمار لا يقترب من الدول التي تعاني سلطتها القضائية من الترهل والبيروقراطية أو تتعرض صلاحياتها للتغول من أية سلطة.
اليوم أمام اللجنة التي وجّه جلالة الملك بتشكيلها فرصة تاريخية؛ ولعل اللجنة المرتقبة توافقنا الرأي في أن تطوير القضاء ليس إصلاحا داخل مؤسسة واحدة؛ بل هو إعادة بناء العقد الاجتماعي القائم على سيادة القانون، وأن نتائج عملها ستنعكس مباشرة على ثقة المواطن ورفاهيته، وعلى قدرة الأردن في أن يكون بيئة استثمارية مستقرة وجاذبة.
القضاء المستقل هو قلب الدولة. واللحظة اليوم مواتية.