facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




ساريةُ العلم مرّة أخرى .. وأمانةُ عمّان الكُبرى


م. عامر البشير
10-11-2025 02:54 PM

جولة الفجر وبداية الحكاية

في فجر يوم الجمعة الماضي، سلكتُ شوارع عمّان وهي ما تزال تتنفّس أولى أنفاس النهار، في تلك الساعة الوحيدة التي يمكن أن تطوف فيها المدينة بزمنٍ قياسيّ، خاليةً من ازدحامها المعتاد.
وبينما كنت أمرّ بأحيائها المختلفة، لفت نظري مشهدٌ متكرّر: سواري أعلام تُركَّب تباعًا بأوامر إداريّة، كمتطلّبٍ جديد للحصول على إذن الإشغال من أمانة عمّان الكبرى.

ما رأيته كان كافيًا لأدرك أن صاحب القرار، لو رأى بعينه ما آل إليه هذا الرمز العظيم، لأنكر ما جرى لمعناه قبل شكله.
فالأعلام التي رُفعت لم تكن ترفرف فخرًا، بل تتمايل تعبًا؛ علمٌ تآكلت أطرافه، كأنّ الريح لم تكتفِ بأن تلامسه، بل كانت تجرحه كلّ يومٍ قليلًا، حتى غدا شاهدًا صامتًا على التسرّع في القرار وتآكل الذاكرة الوطنية.

الرمزية التي ضاعت بين النوايا والنتائج

ومن هنا تبدأ الحكاية...
فبعد أقلّ من ثلاثة أشهر على بدء تنفيذ التعليمات الجديدة التي تُلزم كلّ مبنى بتركيب ساريةٍ ورفع العلم الأردنيّ كشرطٍ للحصول على إذن الإشغال، تكشّف الواقع عن مشهدٍ لا يشبه النوايا.

الغاية المعلَنة كانت نبيلة — “ترسيخ رمزية الانتماء” — لكن النتيجة جاءت مغايرة تمامًا:
أعلامٌ ممزّقة تنهشها الريح وتحرقها الشمس، تتدلّى فوق أعمدةٍ صدئة أمام أبنيةٍ جديدة، كأنها تصرخ في وجه البيروقراطية:

"هذا الانتماء أُمر به إداريًّا، ولم يُزرع وجدانيًّا."

حين يفقد الرمز قدسيّته

إنّ الرمز يفقد قدسيّته في اللحظة التي يُفرَض فيها بالقانون؛ لأنّ الرمزية لا تُشرَّع في النصوص، بل تُعاش في النفوس.
رأيتُ سواري تُركَّب بلا تفكير، تحت أسلاك الكهرباء، أقصر من الحدّ المسموح، ودون أدنى شروط السلامة.
ورأيتُ من اكتفى بعصا من الخيزران ليُقال إنه “التزم بالتعليمات”.
وفي مشهدٍ آخر، مدّت إحدى السيدات على ساريتها حبل غسيلٍ علّقت عليه أثوابها، بألوانٍ متنافرةٍ سرقت ما تبقّى من هيبة العلم.

لقد تحوّل العلم من رمزٍ للوطن إلى ملصقٍ إداريٍّ ملوَّن، يُعلَّق لإتمام معاملةٍ لا لإحياء معنى.
وما هو أسوأ من ذلك أنّ هذه الرمزية المصطنعة صارت عبئًا جديدًا على المواطن — ماديًّا ومعنويًّا — وجُرحًا في المعنى أحدثه قرارٌ إداريٌّ لم يُحسن قراءة المقام الوطني الذي أراد خدمته.

الوطن ليس قطعة قماش

فالوطن ليس قطعة قماش…
بل هو ذاكرة أمةٍ كاملة.

علمٌ يُشترى، وساريةٌ تُركّب، ومهندسٌ يوقّع، ومفتّشٌ يوافق — إلى أن يصبح الانتماء ذاته وثيقةً مختومة بخاتم “موافَق عليه”.
وأستطيع أن أتصوّر المشهد بعد عامٍ من الآن:
أعلامٌ باهتة، تلتهمها الشمس والريح، فوق أعمدةٍ صدئة كما تصدأ المعاني حين تُفرَّغ من روحها، وقد يتعدّى ذلك — بقصدٍ أو دون قصد — إلى الإساءة لهذه الرمزية التي تستحق التقديس لا التكرار الشكلي.

عندما يتحوّل الانتماء إلى معاملة

وهكذا تتقلّص الفكرة الكبرى — فكرة الوطن — إلى شكلٍ بلا مضمون، ومشهدٍ بلا دفء.
فالوطن لا يحتاج إلى علمٍ فوق أبنيته،
بل إلى ضميرٍ فيمن يبنونها.
ولا يحتاج إلى ساريةٍ من حديد مدهونةٍ بطلاء،
بل إلى قلوبٍ لا تصدأ.
ولا يحتاج إلى قوانين تفرض الرموز، بل إلى سياساتٍ تُعيد الثقة بالرموز.

فحين تُختزَل الرموز الوطنية إلى بندٍ إداريّ في معاملة بناء، نفقد معناها المقدّس.
وحين يُصبح رفع العلم شرطًا للحصول على خدمةٍ عامة، يتحوّل الانتماء إلى صفقةٍ تجارية بين “المواطنة” و”الموافقة”.

الرمز لا يعيش في ظلّ التعليمات

فالماء والكهرباء لا تُحييان وطنًا إن لم تُضِئ قلوب أبنائه بالمعنى.
والرمز لا يعيش في ظلّ التعليمات،
بل في ضمير من يدرك أن الوطن ليس سند ملكيّةٍ ولا إذن إشغال،
بل وعدُ كرامةٍ وإرثُ تضحيةٍ لا يصدأ.

ختامًا: بين الزخرف والضمير

إن لم نُصلح الفكرة قبل المظهر، سنرى عمّان بعد عامٍ مغطّاةً بأعلامٍ ممزّقة فوق أعمدةٍ صدئة — صورة وطنٍ غارقٍ في البيروقراطية، نسيَ كيف يعيش من أجل رموزه لا خلفها.

فالأوطان لا تُكرَّم بالقرارات، بل بالوعي.
وأعلامها لا ترفرف فوق الأسطح، بل في ضمائر أبنائها الأحياء، الذين يعلمون أن الانتماء لا يُعلَّق على جدار… بل يُمارَس في الحياة.

من جولتي الصباحية، احتفظتُ ببعض الانطباعات التي بقيت في الضمير والوجدان، صاغت هذا المقال، أضعها أمام كلّ من يرغب ان يشاركني الحقيقة كما هي لنتساءل كيف سيكون عليه حال السّواري والأعلام، في القريب العاجل لا البعيد...
عاريةً من الزخرف… وواضحةً كالضمير.

ليس الانجاز في تركيب العلم امام كل منزل … يكمن التحدي في الحفاظ على الرمزية الوطنية.

هوامش المسؤولية والتحرير

هذا المقال ينتمي إلى ما يمكن تسميته بـ “الأدب المدني المعاصر” — أدبٍ يراقب الدولة بعين المحبّ، ويعاتبها بلغة الوعي، ساعيًا لإعادة الروح إلى الرمز حين تحاول البيروقراطية تجريده من معناه.
الآراء الواردة تعبّر حصريًا عن رؤية كاتبها استنادًا إلى ملاحظاتٍ ميدانية ونقدٍ بنّاءٍ للشأن الإداري العام، دون المساس بأي جهةٍ أو شخص، وبهدف تعزيز الشفافية وترسيخ الوعي بقدسية الرموز الوطنية، التزامًا بروح الدستور ومبادئ حرية الرأي المسؤولة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :