الريلز… مأساة الثلاثين ثانية
حسن عبدالحميد الرواشدة
13-11-2025 05:18 PM
لم تعد المقاطع القصيرة مجرّد أدوات ترفيه، بل أصبحت أحد أخطر أشكال التأثير السياسي غير المباشر في العصر الرقمي. ثلاثون ثانية فقط كافية لإعادة هندسة المزاج العام، وتوجيه الانفعالات الجماعية، وإنتاج وعيٍ زائف بالواقع.
تلك الريلز التي تتدفّق بلا توقف ليست بريئة كما تبدو، إنها تصوغ العقل السياسي للمجتمعات ببطءٍ محسوب، وتحوّل المواطنين من فاعلين إلى متلقّين مشدوهين داخل مسرح إلكتروني صُمِّم لتحريك المشاعر لا لتوليد المعرفة.
الظاهرة في جوهرها ليست تقنية، بل سياسية بامتياز. فمن يملك الخوارزمية يملك مفاتيح الانفعال الجمعي. المنصات لا توزّع المحتوى عشوائيًا، بل وفق معادلات دقيقة تفضّل ما يثير الغضب ويولّد الاستقطاب.
الغضب مادة سياسية قابلة للتسويق، تُستخدم لخلق دوائر توتر دائمة تشغل المجتمعات عن التفكير، والتحكم في جرعات الانفعال التي تُبقي الناس في حالة احتقان مستمرّ دون أن يتحوّل هذا الاحتقان إلى وعي منظم أو مشروع سياسي حقيقي.
علميًا، الدماغ حين يتعرّض لمحتوى سريع متغير يُفرز جرعات من الدوبامين تجعله يطلب المزيد. سياسيًا، هذا يعني جمهورًا لا يهدأ، لكن لا يعرف لماذا يغضب. جمهور متوتر، سريع الحكم، متقلّب الموقف، ينجرف مع أكثر الأصوات صخبًا في الفضاء العام. وهنا تتحوّل الديمقراطية من نقاشٍ إلى مشهد، ومن فكرةٍ إلى "ترند"، ومن وعيٍ إلى انفعالٍ لحظي. لم تعد السياسة تُصنع في البرلمانات أو الصحف أو المناظرات، بل في دزينة من المقاطع تُنتج في غرف مظلمة وتُضخّ عبر منصات تفضّل الغرائز على الأفكار.
الريلز تُفرغ القضايا الكبرى من سياقها، فتجعل الحروب مجرد مشاهد درامية، والمآسي الإنسانية مؤثرات بصرية، والعدالة الاجتماعية "هاشتاغًا" مؤقتًا. في كل مرة تُقطع فيها المعلومة عن سياقها الزمني والمعرفي، يُقطع جزء من قدرتنا على الفهم. ومع كل تمريرة سريعة، يفقد المواطن تدريجيًا حسَّ التاريخ والترابط، ويغدو أسير اللحظة.
وهنا تكمن أخطر التحولات السياسية في زمن الإعلام القصير، ولادة مواطنٍ يعيش في لحظة انفعالٍ دائم، لا في مشروع وطني طويل النفس.
هذا النمط من التلقّي لا يغيّر فقط علاقة الفرد بالخبر، بل يغيّر بنية المجال العام نفسه. فقد صار الرأي العام اليوم أشبه بموجاتٍ عاطفية، ترتفع وتنخفض تبعًا لإيقاع الريلز، لا تبعًا للأحداث الحقيقية. حتى الحملات السياسية، باتت تُصمَّم وفق منطق الخوارزمية، كل خطاب يجب أن يُختصر إلى مشهد، وكل فكرة إلى اقتباس، وكل أزمة إلى هاشتاغ. السياسة فقدت عمقها الجدلي، واستبدلت اللغة بالرمز، والمناظرة بالتصفيق الإلكتروني.
في العالم العربي، يتجلى هذا الأثر بصورة أكثر خطورة. فالمنصات العابرة للحدود تخلق رأيًا عامًا يتجاوز الدول، لكنه في الوقت نفسه يفتت المجتمعات من الداخل. تُغذّي الريلز حالة غضبٍ دائم تجاه الآخر، أيًّا كان، وتُشيع شعورًا بأن الجميع فاسد، والجميع خائن، والجميع يستحق الهجوم.
هذا التوحيد المصطنع للغضب يخدم في النهاية فكرة العجز الجماعي، أن لا أحد يستحق الثقة، وأن التغيير مستحيل. إنها طريقة ناعمة لإطفاء الإيمان بالعمل السياسي المنظم، واستبداله بتمردٍ افتراضي لا يترك أثرًا في الواقع.
ولأن الإعلام التقليدي تراجع أمام هذا الطوفان، صار جزءًا من المشكلة. بدل أن يصمد كمنبر للعقلانية، تسابق كثير من المؤسسات على منطق السرعة ذاته، فاختزلت النشرات إلى عناوين، والحوارات إلى لقطات، والقصص إلى مشاهد. وهكذا انضم الإعلام نفسه إلى ماكينة إنتاج “الوعي المتوتر”، دون أن يدرك أنه يخسر وظيفته التاريخية كمساحة للفهم لا للانفعال.
إن معركة الوعي اليوم ليست بين يمين ويسار، ولا بين سلطة ومعارضة، بل بين من يملك الوقت ومن لا يملكه. من يقرأ ويفكر ويتأمل، ومن يُساق بإبهامه من ريل إلى أخرى. فالعقل الذي تعوّد على الثلاثين ثانية لن يصبر على خطابٍ سياسي من ثلاثين دقيقة، ولن يقرأ برنامجًا انتخابيًا، ولن يتحمل تعقيد السياسة أو بطء التغيير. وهذا بالضبط ما تريده القوى التي تستفيد من السطحية، جمهور غاضب، لكنه قصير النفس؛ ثائر، لكنه لا يعرف على ماذا يثور.
إن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب استعادة المعنى الأعمق للإعلام والسياسة، بناء الوعي لا تحريك الغرائز. فالأوطان لا تُدار بخوارزميات ولا تُصلحها "الترندات"، بل يُصلحها عقلٌ جمعي قادر على الصبر، على التراكم، وعلى التفكير فيما وراء اللحظة.