في ذكرى ميلاد الحسين .. رحلةُ معنى لا تنتهي
م. عامر البشير
16-11-2025 09:23 AM
ميلادٌ يتجدّد… لا يتكرّر
ليست ذكرى ميلاد الحسين الباني محطةً تُسجَّل في رزنامة الوطن ثم تُطوى؛ بل هي لحظةٌ يتجدد فيها معنى الدولة، ويتردّد فيها صدى البيت الهاشمي من المؤسس الى الوريث، ومن خلال حملة الرّسالة…روحٌ تمضي من الجدّ إلى الحفيد، كأنها خيط نورٍ لا ينقطع في سردية وجودية لا يقيّدها نص ولا حدّ.
ففي الأردن… لا نحتفل بميلاد ملك، بل بميلاد معنى يتوارثه الرجال كما تتوارث الجبال ظلّها.
حين يتحوّل الإنسان إلى معنى
تمرّ الأمم بمحطاتٍ لا تُقاس بطول السنين، بل بمعدن الروح التي عبرتها، وهناك رجالٌ يتحولون، من فرط ما حملوا من صدق، إلى معانٍ لا أجساد، وهكذا كان الحسين الجدّ؛ لم يكن فصلًا في كتاب، بل كان كتابًا يفتح أبوابه كلما اشتدّت العواصف، وكلما احتاج الأردنيون إلى بوصلة.
واليوم، ونحن نستذكره، نلمح في الحسين الحفيد امتدادًا لذلك الضوء القديم؛ لا تشابهًا في الملامح فحسب، بل تشابهًا في الرسالة وبنهج فعلٍ خالص لوجه الحقّ جلّ وعلا.
الحسين الباني… حين تتجسّد وصية المؤسّس في رجل
لم يكن الرّاحل الحسين ملكًا يوقّع قرارات؛
كان رجلًا يقف حيث ينبغي للقائد أن يقف، قريبًا من خندق الجندي لا من منصّة الاحتفال،
وفي عيون الأطفال قبل عدسات الإعلام، وفي نبض الفقير الذي شعر—دون أن يُقال له—أن الملك يسمعه.
كان يعرف حجارة الأردن حجرًا حجرًا، ويعرف ناسه فردًا فردًا؛ بالوجه أو بالاسم أو باللهجة، وذلك أضعف الإيمان، وكان يدرك أن بناء الإنسان أصعب من تشييد البنيان، وأن بناء الوطن رحلةٌ تبدأ من القلب قبل أن تبدأ من القانون.
بين الجدّ والحفيد… حكمةٌ تمشي بين العهود
الأمم العريقة لا تُنجب ملوكًا فحسب؛ إنها تُنجب رسائل، والرسائل لا تُورَّث كما تُورَّث الأشياء، بل تنتقل من قلب رجلٍ إلى وجدان رجلٍ آخر، ومع رحيل الحسين الباني، بقيت روحه في عهد الملك المعزّز عبدالله الثاني؛
الذي حمل الأمانة على كتفيه لا على تاجه، فأعاد للرسالة قوتها، وثبّت أركان الدولة، وحفظ للهوية معناها، وحافظ الأردن على منعته وصلابته، وتقدّمت الدولة بخطى ثابتة وسط عواصف الإقليم، إذ صان الهيبة، وحمى الثوابت، ورسّخ حضور الوطن في زمنٍ لم يثبّت فيه إلا من امتلك حكمةً وضميرًا ورؤية، وحين اشتدّ الجبل وازداد الظلّ ثباتًا، تابعت الوصيّة مسيرتها في كنف الملك المعزِّز عبدالله ابن الحسين، ماضيةً بخطاها المضيئة نحو الحسين الحفيد؛ امتدادًا لوعدٍ يتجدّد ولا ينقطع، فالروح تعرف طريقها ... وتعرف لمن تُسلّم نفسها.
الحسين الحفيد … ملامح جيلٍ يتقدّم بلا ضجيج
في عيني ولي العهد، لا ترى الشباب وحده؛ بل ترى مزيجًا من الهيبة الهادئة والعزم الرصين. يحمل من البيت الهاشمي وضوح الرسالة، ومن الجدّ وقارًا، ومن والده المعزّز عمقًا وتجربة.
لا يستعجل الزمن، ولا يطلب الضوء؛ بل يمشي نحو المستقبل بخطى ثابتة، كأنما يكتب للسنوات القادمة إيقاعها الجديد.
بين ذكرى الباني وأفق الحفيد
إن استذكار الحسين الباني ليس حنينًا إلى زمنٍ مضى، بل تذكيرًا بأن بدايات الدولة لم تكن مجرد مؤسسات… بل كانت روحًا.
والنظر إلى الحسين الحفيد ليس تحليلًا سياسيًا، بل قراءة في طبيعة هذا البيت الذي قام على معنى قبل أن يقوم على سلطة.
وصايا الحسين الجدّ إلى الحسين الحفيد
(بتخيّلٍ أدبي يحمل روح الحكمة الهاشمية دون مبالغة ولا تصنّع)
يا بُني…
ما أضعه بين يديك اليوم ليس كلماتٍ تُقرأ، بل أثرُ طريقٍ مشيته، وثِقلُ أمانةٍ عرفتها في العزلة قبل المجد.
1. اعرف الناس … لتعرف نفسك
من جلس على مقاعد الحكم دون أن يجلس في قلوب الناس، بقي غريبًا مهما ارتفعت راياته، اقترب منهم … فوجه الإنسان أقرب المرايا إلى الحقيقة.
2. العدل … الباب الذي لا يُغلق
ستختلط عليك الأمور، وسيكثر حولك الناصحون، فاسلك طريق العدل دائمًا، فالله لا يعيدُ من أضاعه، والناس لا تنسى من أقامه.
3. الرحمة … القوة التي لا تُهزم
الهيبة لا تُبنى بالشدة وحدها؛ القائد الذي يعرف متى يحنو، يربح ما لا تربحه السيوف.
4. القلب … موضع البيعة الحقيقية
الناس تُبايعك بأيديها، لكنها لا تسلّم قلوبها إلا إذا رأت صفاء قلبك قبل بريق عرشك.
5. لا تدع العرش يبتعد عن الأرض
رأيتُ عروشًا بهتت حين ارتفعت أكثر مما يجب، اجعل عرشك لخدمة الناس … لا للعلوّ عليهم.
6. أصلِح ما بينك وبين الله
ستقف وحيدًا مرات كثيرة، استفتي قلبك… فهو أصدق مما ينصحك بهِ المستشارون.
7. تمسّك بالوعد الهاشمي
نحن يا بُني لم نأتِ إلى الناس من باب السلطة، بل من باب الرسالة، وما كان بلا رسالة… يذبل مهما لمع.
8. أشدد يدك على يد الفقير
دعوة المظلوم تصعد قبل أن تُرفع إليها اليد، إذا اطمأن الفقير إلى عدلك … اطمأن الوطن كله.
9. لا تستعجل الأيام
الإنجاز الحقيقي لا يُقاس بالسنوات، بل بما يتركه في الروح، ازرع الأمل … وسيأتي الوقت الذي يثمر فيه دون ضجيج.
10. إن خِفتَ على الأردن … فأنت بخير
الخوف على الوطن ليس ضعفًا؛ إنه علامة أن الرسالة ما زالت تجري في الدم.
ختام الوصايا
يا حسين…
ما بين الجدّ والحفيد ليس زمنًا، بل سفرُ روحٍ واحدة، ورايةٌ تنتقل من يدٍ إلى يد…حتى يبقى هذا الوطن بخير، لا بما يُبنى من حجارة، بل بما يُغرس في القلوب من معنى لا يسقط.
فما بين الجدّ والحفيد … لا تُسَلَّم الراياتُ باليد وحدها، بل تُسَلَّم بالمعنى، والمعنى هو ما يُبقِي الأردن واقفًا … حماك الله.