facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




بين الغيث والذنب


د.مصطفى التل
18-11-2025 09:03 AM

في زمنٍ نحتفي فيه بـ"العلم" كمنارةٍ للحقيقة، غدا من الغريب أن يُختزل الكون إلى معادلات فيزيائية جافة، تُحاكي الآلة الصماء أكثر مما تُشبه المخلوق النابض بإرادة الخالق.

ها هو العلم - في بعض تصوراته المعاصرة - يتحول إلى منظومة فكرية تُقصي الغيب، وتفصل بين الخالق وسننه في الكون، وكأن الطبيعة تسير بذاتها بمعزلٍ عن مشيئة الله.

هذا الفصل المفتعل ليس بريئاً، بل هو تأسيس لعالمية مادية تُفرغ الظواهر الكونية من دلالاتها، وتجعل من "القانون العلمي" سيداً على الكون بدلاً من كونه سنة إلهية يجريها الله على وفق حكمته.

حين يُختزل انحباس المطر إلى مجرد تقلبات مناخية، دون اعتبار لعلاقته بسلوك البشر وأخلاقهم، لا يكون ذلك "علماً" بقدر ما يكون شكلاً من أشكال انحراف العلم ، الذي يعترف بالسبب المادي وينكر الحكمة الإلهية, فما كان انحباس المطر عن البلاد إلا صفحة من كتاب الكون المفتوح، الذي يخبرنا - لمن يعقل - أن خلل المناخ ما هو إلا صورة لخلل المنهاج

أستاذ (مالك العثامنة ) قرأت مقالكم المعنون "بين المعصية والمناخ" في عمون بتأمل، وأجدني أمام رؤية تحتاج إلى وقفة متأنية تستحضر المنظور الإسلامي الشامل لفعل السنن الإلهية في الكون , فما نحن بصدده ليس مجرد ظواهر مناخية مجردة، وإنما هو مشهد كوني تعبر فيه الأسباب المادية عن حكمة إلهية بالغة.

لقد جاء الخطاب القرآني ليؤكد أن النظام الكوني ليس مستقلاً بذاته، بل هو خاضع لإرادة الخالق عز وجل , فعندما يقول تعالى: "وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ" (الحجر: 21)، فإنه يضعنا أمام حقيقة أن نزول المطر وغيره من الظواهر الطبيعية إنما هو بقدر إلهي محكم.

إن الربط بين المعاصي وانحباس المطر ليس اختراعاً بشرياً، بل هو سنة إلهية ثابتة جاءت بها النصوص , ففي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا" (رواه ابن ماجه).

وهنا لا ينفي الإسلام الأسباب المادية، بل يربطها بحكمة إلهية عليا , فالجفاف الذي نعانيه له أسبابه الطبيعية من تغير المناخ وقلة الأمطار، ولكن وراء هذه الأسباب حكمة إلهية في ربط العقوبات بالذنوب , وهذا المنظور لا يلغي البحث العلمي، بل يضفي عليه بُعداً أخلاقياً.

إن الناظر في تاريخ الأمم السابقة يجد أن القرآن الكريم قد سجل نماذج عديدة لهلاك أقوام بسبب معاصيهم، حيث اختل النظام الطبيعي نفسه عقوبة لهم , فقوم نوح أغرقهم الطوفان، وقوم لوط خسف بهم الأرض، وقوم فرعون أُغرقوا في اليم , هذه الأمثلة ليست مجرد قصص تاريخية، بل هي عبرة للأمم اللاحقة في ارتباط المصير الطبيعي بالسلوك الأخلاقي.

أما استشهادكم بالدول الأوروبية التي تكثر فيها الأمطار رغم ما فيها من مفاسد، فيحتاج إلى فهم أعمق للسنن الإلهية , فالله تعالى قد يمنح النعم استدراجاً للعاصين، كما قال تعالى: "فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ" (الأنعام: 44) , وقد تكون لهم عقوبات أخرى غير الجفاف، كالقلق الروحي والتفكك الأسري والاكتئاب، التي تكشف الإحصاءات أنهم في مقدمة الدول فيها.

إن المنهج الإسلامي المتوازن يأمرنا بالأخذ بالأسباب المادية مع الإيمان الكامل بأن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى , فليس صحيحاً أن ندعو إلى إهمال البحث العلمي بحجة التوكل، ولا أن نغفل البعد الغيبي بحجة التقدم العلمي , بل المطلوب الجمع بين التوبة الصادقة والبحث العلمي الجاد، بين الدعاء بإنزال الغيث والأخذ بأساليب حفظ المياه ومواجهة التصحر وغيره .

إن ما نراه اليوم من أزمات مناخية هو محض إشارة إلى حاجة البشرية إلى العودة إلى خالقها، مع الأخذ بكل أسباب التقدم العلمي , فالدين لا يعارض العلم، بل ينظمه ويضبطه بضوابط القيم والأخلاق , والخطاب الديني الرشيد هو الذي يجمع بين التذكير بحقيقة السنن الإلهية في الكون، والحث على الأخذ بالأسباب المادية، دون إفراط ولا تفريط.

فالأجدى بنا أن نرى في هذه الأزمات فرصة للمراجعة الشاملة، مراجعة للعلاقة مع الخالق عز وجل، ومراجعة للسلوك البيئي، ومراجعة للسياسات المائية، ومراجعة للأنماط الاستهلاكية , فهذا هو المنهج الإسلامي المتكامل في التعامل مع التحديات.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :