الاستثمار يخاف دائما من الغموض!
جمال القيسي
19-11-2025 12:28 PM
التصريح المنسوب لرجل الأعمال الأردني الأبرز زياد المناصير عن التضييقات والضغوط وطلبات تعيين أبناء مسؤولين في شركاته. يجب التعامل معه كجرس إنذار على مستوى الاقتصاد الوطني قبل الذهاب إلى جلد الرجل والتفجع على مستقبل الاستثمار بسبب تصريحاته؛ إن التشبث بفكرة لوم المناصير واتهامه بإلحاق الضرر ببيئة الاستثمار هو هروب مرتبك من متابعة الحقيقة؛ فالرجل بحكم تاريخه الاقتصادي لم نعهده من طبقة المستثمرين الذين يلجأون إلى الإعلام لتحقيق مآرب شخصية لإنعاش أرباحهم. وهذا النوع من التصريح/المكاشفة لا يصدر إلا عندما يصل مستثمر عريق إلى نقطة اختناق تدفعه لكسر قاعدة الصمت.
المفارقة أن هذا التصريح جاء في لحظة سياسية دقيقة، بينما كان جلالة الملك عبد الله الثاني يقوم بجولة آسيوية تشمل اليابان، ويعقد لقاءات رفيعة مع ممثلي شركات كبرى. وهي جولة تتضمن رسائل سياسية بلا شك، لكنها تحمل في ثناياها العزم على إعادة ترميم “القصة الاستثمارية الأردنية” أمام دول تنظر باحترام إلى الملك شخصيا، وإلى دوره الإقليمي والدولي، أكثر مما تنظر إلى التشريعات والحوكمة المحلية.
هنا تكمن المفارقة؛ فالثقة الخارجية بالأردن اليوم تعتمد على رصيد الملك، لا على قوة النظام المؤسسي، وما قاله المناصير جاء ليذكّرنا بأن ثقة المستثمر المحلي — قبل الأجنبي — ليست بالمستوى الذي نطمح إليه، ليس لأن الدولة تتعسف، بل لأن بعض المسؤولين ما يزال يتصرف في مصالح البلاد الاستراتيجبة بمنطق “النفوذ الشخصي”.
لا يجوز أبدا اتهام المناصير بسوء النية، ولا يصح الهروب من تصريحه بذريعة أن هذا التوقيت يحرج المؤسسة الرسمية؛ ولا يجوز القول: (كيف يمكن للحكومة أن تسوّق الأردن كبيئة جاذبة، فيما يشير أكبر مستثمر أردني إلى ممارسات لا تنتمي إلى لغة الاقتصاد الحديث؟ وما الذي سيقوله المستثمر الياباني أو الكوري حين يسمع بأن رجل أعمال بحجم المناصير يشكو من ضغوط أو ابتزاز)؟
قبل أن يلجأ البعض لذلك علينا الإجابة على السؤال البسيط الذي نطرحه بصوت هادئ:
إذا كان هذا يحدث للرجل الوطني الذي يعمل لديه آلاف من الأردنيين، ويعتبر من الطبقة الأقرب إلى دوائر الثقة، فكيف هو حال من لا يملك شبكة علاقات واسعة وأدوات تواصل اجتماعي؟!
لا أحد يشكّ في أننا قطعنا خطوات إلى الأمام ونواصل تتبع وضبط الفساد ومظاهره، وبناء بيئة استثمارية أقل بيروقراطية. ولكن نوعا آخر من التشوهات والسلوكيات المرفوضة ما يزال قائما، وثمة مساحة رمادية يتحرك فيها بعض المتنفذين باعتبارهم أكبر من القانون وأعلى من مؤسسات الرقابة.
هذه المساحة الرمادية هي التي تدفع مستثمرا بحجم المناصير إلى الكلام. وهي المساحة التي تهدد صورة الأردن أكثر مما تهدد مصلحة أية شركة أو قطاع، وهي التي تجعل الثقة الخارجية مرتبطة بشخص الملك—باعتباره الضامن الأول للاستقرار—لا بالدولة المؤسسية التي يجب أن تكون جذابة بذاتها وتشريعاتها وقضائها ومؤسساتها، لا بمكانة قائدها فقط.
تجربة المناصير، مهما كان شكلها النهائي بعد التحقيق، يجب أن تُستثمر كفرصة لإغلاق الثغرات التي نعرفها جميعا ونتجنب الحديث عنها؛ فحماية الاستثمار ليست واجبا اقتصاديا وحسب؛ بل واجب سيادي يدخل في صميم الأمن الوطني. والرسالة التي يجب أن تخرج اليوم، للداخل والخارج، هي أن المستثمر سواء كان اسمه زياد المناصير أو شابا يفتح مشروعه الأول لا يخضع لنفوذ أشخاص، بل لسيادة القانون؛ وأن ندرك فعلا أن الاستثمار يخاف دائما من الغموض!