الرحلات المجهولة: كيف تُفرَّغ غزة بصمت من أهلها؟
صالح الشرّاب العبادي
25-11-2025 10:04 AM
في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بأصوات القصف فوق غزة، يجري في الخلفية مشهد آخر أكثر هدوءًا وأكثر خطورة: حركة تهجير صامتة، منظمة، وغير معلنة، تنقل أبناء القطاع إلى وجهات بعيدة عبر رحلات جوية خاصة تقلع من مطار رامون في النقب، على متن طائرات بلا شعارات، وبترتيبات لا تحمل أي طابع رسمي واضح.
التقارير التي كشف عنها مؤخراً وأعادت تسليط الضوء عليها منصات إعلامية دولية ، تشير إلى شبكة تعمل في الظل، تجمع بين وسطاء داخل غزة، وأطراف في الداخل الإسرائيلي، وشركات خاصة تنسق إجراءات الخروج. هذه الشبكة لا تقدّم نفسها كمنظمة إنسانية، ولا تعلن عن أهدافها، لكنها تُدير – على مدار الساعة – عملية نقل متواصلة لغزيين يبحثون عن مخرج من جحيم الحرب.
الرحلات تتجه إلى دول متباعدة: كينيا، ماليزيا، إندونيسيا، جنوب أفريقيا… دول لم تُصدر بيانات رسمية، فيما أكد مغادرون أنهم لم يكونوا يعرفون حتى لحظة الصعود إلى الطائرة ما هي وجهتهم النهائية. البعض دفع مبالغ كبيرة، والبعض الآخر نُقل عبر ترتيبات “خاصة” رتبتها أطراف مجهولة، في مشهد يختلط فيه النزوح الإجباري بالاتجار باليأس.
ما يجعل القضية أكثر التباسًا هو أن الرحلات تتم من مطار إسرائيلي( رامون ) ، وتحت أعين أجهزة رسمية، وما يجري مبادرة ظاهرها إنساني وباطنها استغلالي للظروف التي يعيشها شعب غزة من قبل تجار الحروب ، و عملية هندسة ديموغرافية مُدارة بعناية ، تفريغ ممنهج يدار على مرأى ومسمع العالم بدون ادنى اعتراض او تنديد او وقف .
أحداث جوهانسبرغ الأخيرة – حين وُضع أكثر من 150 غزيًا في صالة الانتظار لساعات بسبب أوراق ناقصة – كشفت حجم الفوضى، بل وعمق الغموض: لا ختم خروج، لا تأشيرات واضحة، ولا جهة تعلن مسؤوليتها عن إيصالهم إلى هناك. كل ذلك يعزز فرضية أن الشبكة ليست مجرد قناة “خاصة”، بل أنها تعمل في منطقة رمادية بين الرسمي وغير الرسمي.
الأكيد اليوم أن غزة لا تُستنزف فقط بالقصف، بل أيضًا بالمغادرة الصامتة. آلاف يبحثون عن حياة أخرى، وشبكات تستغل هذا البحث، ورحلات تقلع نحو المجهول بلا إعلان ولا رقابة. وفيما لا يزال المسرح السياسي غارقًا في الحديث عن مستقبل القطاع، فإن الأرض تُفرّغ تدريجيًا من بشرها، و”السماء” تُصبح طريقًا آخر للتهجير.
هذه ليست هجرة طبيعية، ولا نزوحًا عابرًا… إنها عملية تتكرّر يوميًا، وترسم مستقبلًا جديدًا للقطاع، مستقبلًا يبدأ من مدرج الطائرات وليس من طاولات التفاوض.