غياب منظومة القيم في زمن المادية المفرطة
م. سعيد المصري
26-11-2025 02:40 PM
* قراءة في المشهد الأردني بين الواقع والأمل
في زمن تتسارع فيه المظاهر المادية ويتراجع فيه المعنى لصالح الشكل، نشهد في الأردن كما في غيره من المجتمعات تآكلاً صامتاً ومتراكماً في منظومة القيم التي شكّلت لعقود طويلة أساس العلاقات الإنسانية. فقد كانت قيم مثل الاحترام، والتهذيب، والصدق، والكرم، والحياء، والتكافل، تمثّل حجر الزاوية في الحياة الأردنية، وتنعكس في السلوك اليومي داخل الأسرة والحي والشارع والمؤسسة. أما اليوم، فتبدو هذه القيم وكأنها تُختبر في كل لحظة عبر تفاصيل صغيرة تكشف مدى ما فقدناه من توازن ذاتي وأخلاقي.
إن المشهد اليومي في الأردن بات يحمل صوراً صادمة لم نعتد عليها سابقاً. فالرجل المسن الذي كان يحظى بوقار طبيعي في المجالس، أصبح يقف في طابور طويل دون أن يلتفت إليه أحد. والمرأة الكبيرة في السن التي كانت تُحاط برعاية في الطريق والسوق، باتت تتنقل وسط زحام لا يمنحها مساحة للمرور ولا ينبّه لسيرها البطيء. أما الأشخاص من ذوي الإعاقة، فحقوقهم المقررة بالقانون كثيراً ما تتبدّد في الشارع: مواقفهم تشغل دون وجه حق، الأرصفة تعيق حركتهم، المصاعد تُستخدم بلامبالاة، والنظرات ما زالت تحتاج إلى إعادة تأهيل أخلاقي قبل أي تشريع.
ويزداد المشهد تعقيداً حين نلتفت إلى اللغة المتداولة بين الناس، سواء في الشارع أو في مواقع التواصل أو في بيئات العمل. فقد حلت الكلمات القاسية بدل اللطف، والسخرية بدل الاحترام، والصوت المرتفع بدل الحوار الهادئ. لم يكن اللسان الأردني معتاداً على هذا المستوى من الفجاجة، بل كان التهذيب جزءاً أصيلاً من الشخصية الاجتماعية، حتى في الخلافات. واليوم، أصبح الانحدار اللفظي من أكبر المؤشرات على الأزمة القيمية.
ويمتد هذا الخلل إلى علاقة المواطن بالمؤسسة. فالموظف، سواء في القطاع العام أو الخاص، يمثل واجهة الدولة والمجتمع، ويجلس خلف مكتب وُضع ليخدم الناس. غير أن بعض الممارسات تُشعر المراجع وكأنه يطلب معروفاً لا حقاً يكفله القانون. إن احترام الناس واجب لا فضل، والمسؤولية المهنية جزء لا يتجزأ من أخلاق الإنسان، وكلمة مهذبة أو نظرة ترحاب قادرة على إعادة بناء جسور الثقة بين المواطن والمؤسسة.
وعندما ننتقل إلى تعاملنا مع ضيوف الأردن من سياح ومستثمرين، تتجلى الصورة بوضوح أكبر. فالضيف الذي كان يحتل الصدارة في البيوت الأردنية، يجب أن يعامل بالروح نفسها في بيت الأردن الأكبر: الدولة. والسائح الذي يزور الأردن، أو المستثمر الذي يفكر في بناء مشروع فيه، لا يحمل معه صورة الموقع السياحي فقط، بل صورة المجتمع الذي استقبله، والموظف الذي استمع إليه، والسائق الذي تعامل معه، والمكان الذي شعر فيه بكرامته. إن الضيافة ليست تقليداً اجتماعياً فقط، بل قيمة وطنية يجب أن تُمارس بمسؤولية لأنها تؤثر مباشرة في سمعة الأردن الاقتصادية والسياحية.
ولفهم جذور هذا التراجع، يجب النظر إلى الضغوط الكبيرة التي مر بها المجتمع خلال العقود الأخيرة. فالضغوط الاقتصادية المتراكمة، وتآكل الطبقة الوسطى، وصعود نمط حياة استهلاكي يقيّم الإنسان بما يملك لا بما هو عليه، وغياب التربية القيمية في المدارس، وانشغال الأسرة، وابتعاد الخطاب الديني عن معالجة الواقع العملي، كلها عوامل ساهمت في إضعاف البناء الأخلاقي. وزاد الأمر تعقيداً غياب القدوات الحقيقية من مواقع التأثير العامة، ما جعل الناس يبحثون عن نماذج بديلة في محيطهم المباشر. المطلوب اليوم ليس انتظار شخصية واحدة تصلح كل شيء، بل البحث عن أولئك الذين يعيشون القيم فعلاً ليكونوا قدوة عملية، وعلى الإعلام مسؤولية إظهار هؤلاء بدل تسليط الضوء على نماذج فارغة.
ومع ذلك، فإن الأمل باقٍ، لأن القيم لا تزول، بل تخبو حين تُهمل. والمجتمع الأردني، الذي صمد أمام ظروف سياسية واقتصادية صعبة، قادر على استعادة بوصلة الأخلاق إذا قرر أن يعطي الأولوية للإنسان، وللتهذيب، وللضمير، وللسلوك القويم.
معالم الطريق نحو الإصلاح القيمي
أولاً: تجديد التربية القيمية في البيت والمدرسة
المدرسة ليست مكاناً للتلقين فحسب، بل هي مصنعٌ لتشكيل السلوك. وعلى المناهج أن تبني وعي الطالب بقيم الاحترام والعدالة والتهذيب والمسؤولية، وأن تعزز دور الأسرة شريكاً أساسياً في التربية.
ثانياً: إبراز النماذج الملهمة
الإعلام مسؤول عن إعادة الاعتبار للقدوة الأخلاقية، من خلال تسليط الضوء على الأردنيين الذين يمثلون النزاهة والاجتهاد والتواضع واحترام الناس، وهم كثيرون في كل محافظة وبيئة.
ثالثاً: إعادة بناء شبكة الأمان الاجتماعي
لا يمكن للقيم أن تزدهر في مجتمع يشعر أفراده بأنهم مكشوفون للضغوط. العدالة الاجتماعية، والحماية من الفقر، وتكافؤ الفرص، كلها عناصر تعيد للإنسان توازنه وتقلل من دوافع السلوكيات السلبية.
رابعاً: دور المؤسسات الدينية والمدنية
على هذه المؤسسات أن تقدم خطاباً واقعياً قريباً من حياة الناس، وأن تتحول من الوعظ الكلامي إلى المبادرة العملية التي تحمي الأسرة وتدعم الشباب وتواجه الانزلاقات الأخلاقية.
خامساً: القدوة في مواقع التأثير
لا يمكن للقيم أن تُستعاد ما لم يكن في مواقع المسؤولية أشخاص يمثلون هذه القيم بصدق. السلوك قبل القول، والالتزام قبل الوعظ، هما مفتاح بناء الثقة العامة.
سادساً: تفعيل دور العشائر
العشيرة كانت وما زالت حاضنة للشهامة والكرم، وهي قادرة على قيادة جهد اجتماعي واسع لإعادة تشكيل السلوك الأخلاقي وضبط الانفلات السلوكي بين الشباب، بشرط أن يكون ذلك منسجماً مع الدولة الحديثة.
ختاماً، فإن العودة إلى القيم ليست عودة إلى الماضي، بل هي بوابة المستقبل. فالمجتمع الذي يحترم إنسانه، ويكرم ضيفه، ويحفظ لسانه، ويرعى ضعيفه، ويمنح الكبير مكانته، هو مجتمع قادر على بناء اقتصاد قوي وحياة عامة راشدة ومستقبل يستحق أن نطمح إليه.