على هامش لجنة تطوير القضاء الأردني
أ.د محمد سليم غزوي
27-11-2025 10:16 AM
لأننا نرى في لجنة تطوير القضاء التي أمر جلالته بتشكيلها، رئيسها والذوات أعضاؤها، مسارًا مضافًا لمسيرة نؤمن بها. وحيث إن العبء الملقى عليها «هام ومهم» ستقوى عليه بإذن الله.
هذا، ومن غير الممنوع، وفقًا للواجب العلمي والوطني، أن يسهم كل ناصح بالقدر النافع والمفيد، وفقًا لقوله تعالى: «قال ما مكنني فيه ربي خير فأعينوني بقوة» (الكهف/95).
حيث في مقدمتها، وعلى رأسها، التشريعات الناظمة للرقابة القضائية العادية «قانون استقلال القضاء رقم 29 لسنة 2014»، والإدارية «قانون القضاء الإداري رقم 47 لسنة 2014».
أولًا) في قانون استقلال القضاء وتعديلاته رقم 29 لسنة 2014
قانون استقلال القضاء لعام 2014 هو من التشريعات المكملة للدستور، وفقًا لنص المادة 27 و97 منه، ويعد امتدادًا له، فلا يمكنه أن ينتهك روح نصوصه ولا يمكنه أن يخالفه أو يعدل نصوصه. وبالتالي، يأتي قانون استقلال القضاء وتعديلاته لعام 2014 في مقدمة القوانين الهامة والمهمة ذات الصلة. وبالتالي نتساءل: أين موقع هذا القانون الهام من السياسة التشريعية البَنّاءة في النظام القانوني الأردني؟ سنسارع إلى القول إن من يذهب إلى سبر أغوار هذا القانون سيفاجأ بسياسة تشريعية جردته من جوهره، وذلك على خلاف ما أمرت به تلك التعديلات الدستورية الخالدة وقننته المواد 27 و98 من الدستور.
وبالعودة إلى مواطن السياسة التشريعية الضارة، بل والخطرة، في قانون استقلال القضاء نجدها كما يلي:
من ناحية، إن قانون استقلال القضاء لعام 2014، قبل إجراء التعديل عليه في عام 2017، كان ينص في المادة 2 منه على تعريف «المجلس» بالمجلس القضائي المنشأ بموجب أحكام هذا القانون، وتعريف «الرئيس» برئيس المجلس.
وأضافت المادة 4 منه: «يتألف المجلس من رئيس محكمة التمييز رئيسًا وعضوية كل من: أ – ز ... إلخ». ونصت المادة 12/ب على أن «يتم تعيين رئيس محكمة التمييز وقبول استقالته بإرادة ملكية سامية»، أي وفقًا لنص المادة 40/1 من الدستور: «يمارس الملك صلاحياته بإرادة ملكية وتكون الإرادة الملكية موقعة من رئيس الوزراء والوزير أو الوزراء المختصين، يبدي الملك موافقته بتثبيت توقيعه فوق التواقيع المذكورة».
ونصت المادة 14/ب على أن يؤدي رئيس محكمة التمييز القسم أمام الملك، ويؤدي قضاة الدرجة العليا القسم أمام رئيس محكمة التمييز.
وأضافت المادة 48 أن المجلس القضائي يمارس صلاحية مجلس الوزراء، ويمارس الرئيس صلاحية الوزير المختص.
هذا، وعلى أثر صدور القانون المعدِّل رقم 26 لسنة 2017 لقانون استقلال القضاء رقم 29 لسنة 2014، تم إلغاء المعنى المخصص لتعريف «الرئيس» في المادة الثانية، ليُستعاض عنه بأن «الرئيس هو رئيس المجلس/رئيس محكمة التمييز».
وبالمقارنة بين أسلوب تعيين رئيس محكمة التمييز وأسلوب تعيين رئيس المجلس القضائي، فإن الفارق بينهما واضح؛ حيث يتم تعيين رئيس محكمة التمييز وقبول استقالته وفقًا لنص المادة 40/1، أي بإرادة ملكية تنظيمية، أما رئيس المجلس القضائي وقبول استقالته فيتم وفقًا لنص المادة 40/2، بإرادة ملكية منفردة دون توقيع من رئيس الوزراء أو الوزير أو الوزراء المختصين.
فما الذي يُستفاد من النصوص سالفة الذكر، وما الذي تعنيه؟
إنها تعني أمرًا هامًّا، وهو أن رئاسة المجلس القضائي منفصلة تمامًا عن رئاسة محكمة التمييز. ولكن السؤال: من أين يُؤتى برئيس المجلس القضائي؟ إنه متروك للسلطة التي تنفرد بتعيينه، وهنا يكمن الخطر، فقد يؤتى به من خارج الأسرة القانونية.
وإذا أضفنا للنصوص سالفة الذكر نص المادة 4 من القانون، التي جاء فيها: «يتألف المجلس من رئيس محكمة التمييز رئيسًا وعضوية كل من: ...»، فهذا يعني أحد أمرين:
الأمر الأول: افترضه المشرع، وهو أن رئيس المجلس القضائي هو رئيس محكمة التمييز.
الأمر الثاني: أنه يكرس القسمة ما بين وظائف المجلس ورئاسته، حيث إن عبارة «يتولى جميع الشؤون المتعلقة بالقضاة النظاميين» لا تعني شيئًا واحدًا، وإنما تتعدد هذه الشؤون وتتنوع.
وبالنتيجة، فإننا نعتقد أن هذه الثرثرة في القانون لا تعني أكثر من أن السياسة التشريعية ضارة وخطرة، ليس فيها من علم السياسة التشريعية البَنّاءة وفن الصياغة شيء مفيد، كما سنرى أيضًا.
وبناءً على ذلك، سنذهب مع قانون استقلال القضاء إلى الأخطر، وبخاصة عندما صدر القانون المعدِّل رقم 19 لسنة 2016 وأسقط عبارة «ولا يحمل جنسية دولة أخرى» من الشروط اللازمة للتعيين كقاضٍ (م 9/أ-1 من قانون استقلال القضاء)، وعندما صدر القانون رقم 26 لسنة 2017 (القانون المعدِّل لقانون استقلال القضاء)، حيث أضاف إلى تعريف الرئيس في المادة 2 «رئيس محكمة التمييز»، وبهذا أصبح المقصود برئيس المجلس القضائي رئيس محكمة التمييز. هذا اجتهاد من المشرع، وهو اجتهاد صحيح، ولكن أن يذهب إلى تقنينه على خلاف ما يأمر به الدستور بنص ما زال موجودًا وساري المفعول، فهو أمر خطير.
جاء في التعديل الذي أُدخل على المادة 12/ب من القانون: «يتم تعيين الرئيس، أي رئيس المجلس القضائي – رئيس محكمة التمييز، وقبول استقالته بإرادة ملكية سامية».
وهو بهذا يكرر ما تضمنه النص الأصلي للمادة 12/ب من القانون: «يتم تعيين رئيس محكمة التمييز وقبول استقالته بإرادة ملكية سامية»، ويرجحه على ما أمر به الدستور في المادة 40/2-د، حيث يمارس الملك صلاحياته بإرادة ملكية دون توقيع من رئيس الوزراء والوزير أو الوزراء المختصين في الحالات التالية: د – تعيين رئيس المجلس القضائي وقبول استقالته.
وقد ذهب إلى مخالفة هذا النص تحت وهم أن لا فارق بين الإرادة الملكية كما عرفتها المادة 40/1، والإرادة الملكية كما نصت عليها المادة 40/2، لتصبح بالتالي كافة التعديلات سالفة الذكر غير دستورية.
ونضيف مأخذًا آخر على السياسة التشريعية التي أنتجت قانونًا مضطربًا لاستقلال القضاء، موطنه المادة 15 بفقراتها (أ وج و هـ). ولأن هذه المادة تثير التساؤل حول مدى مشروعيتها، حيث سبق أن أثير هذا الموضوع أمام المحكمة الدستورية (يُراجع الحكم رقم 2 لسنة 2018)، فإن لنا حول البنود السالفة الذكر من المادة 15 رأيًا، سأفصّل فيه وحوله وفقًا لما يلي:
فحيث إن الفقرة (أ) من المادة 15 انتهازية نفعية وضارة، فهي بالتالي غير دستورية، وحيث إن الفقرة (ج) لا تنسجم مع السياسة الوظيفية في المملكة الأردنية الهاشمية، فهي أيضًا غير دستورية، وحيث إن الفقرة الأخيرة (هـ) لا تنسجم مع ما تأمر به المادة 128 من الدستور، فهي بالتالي غير دستورية. أمّا لماذا؟ ففي ضوء أن قانون استقلال القضاء السالف الذكر قانونٌ مكمّلٌ للدستور وامتدادٌ له، كما سبق وذكرنا، فلا يمكن أن يخالفه لا بنصه ولا بروحه. وعليه، فإن نقطة البدء:
وحيث نصّت المادة 15/أ على أنه، على الرغم مما ورد في أي تشريعٍ آخر، للمجلس – أي للمجلس القضائي – بناءً على تنسيب الرئيس المستند إلى توصية لجنةٍ مشكلة من أقدم خمسة من قضاة محكمة التمييز من غير أعضاء المجلس، إحالةُ أيّ قاضٍ على التقاعد إذا أكمل مدة التقاعد المنصوص عليها في قانون التقاعد المدني.
ووفقًا لنص المادة 13/ب من قانون التقاعد المدني وتعديلاته رقم 34 لسنة 1959: «للقاضي المعرَّف بقانون استقلال القضاء، وللقاضي الشرعي الذي بلغت مدة خدمته المقبولة للتقاعد خمسًا وعشرين سنة، الحق في أن يتقاعد»، كما تُراجع المادة الثالثة منه التي قسمت الموظفين إلى قسمٍ تابعٍ للتقاعد وآخر غير تابع، والمادة الرابعة التي بيّنت من هم الموظفون التابعون للتقاعد، والمادة الخامسة التي بيّنت الخدمات المقبولة للتقاعد.
وفي ضوء ضرورة عدم الخلط بخصوص طلب الإحالة على التقاعد بين المادة 15/أ، التي تكتمل مدة الخدمة القضائية المقبولة للتقاعد وفقًا لها بموجب قانون التقاعد المدني، والمادة 15/ج، التي تكتمل مدة الخدمة القضائية الفعلية المقبولة للتقاعد بموجب قانون استقلال القضاء، وبين حالات انتهاء الخدمة القضائية المقبولة للتقاعد بطلب من القاضي لا رغمًا أو غصبًا عنه، يُطرح السؤال:
فما مدى دستورية الفقرة (أ) من المادة 15؟
لأن التشريع يكون غير دستوري إذا خالف الدستور في نصوصه وأحكامه، ويكون غير دستوري إذا شابه الانحراف في استعمال السلطة التشريعية، أي إذا خالفه في روحه وفحواه (تُراجع المادة 128 من الدستور). فهل نحن أمام انحراف تشريعي وإساءة لاستعمال السلطة التشريعية؟ فهذا سؤال في القانون، وبالتالي يجب أن تكون الإجابة في إطار القانون، وميدانها «روح الدستور». فالانحراف التشريعي يُعَدّ من أخطر العيوب التي يمكن أن تصيب التشريع، لأنه عيبٌ خفي، بمعنى أنه لا يظهر بمجرد المقارنة البسيطة بين نصوص الدستور ونصوص التشريع، وهو عيبٌ يتعلق بالمصلحة العامة عندما تسعى السلطة التشريعية إلى تحقيق غايةٍ أخرى غير مشروعة، كتحقيق فائدةٍ لفردٍ أو لفئةٍ معيّنة.
وبالعودة إلى الفقرة (أ) من المادة 15، حيث تضمنت عبارة: «إحالة أيّ قاضٍ على التقاعد إذا أكمل مدة التقاعد...»، فإن هذه العبارة تكشف عن الغاية التي قصد المشرّع تحقيقها، وهي تحسين التقاعد أو تعديله لفردٍ أو لفئةٍ انتقلت من بعض المؤسسات أو الهيئات غير القضائية إلى المؤسسات والهيئات القضائية.
وحيث إن الانحراف التشريعي يعني أن تتجه السلطة التشريعية، وهي بصدد استعمال سلطتها التقديرية، إلى تحقيق هدفٍ آخر غير ذلك الذي من أجله منحها الدستور هذه السلطة، أي مصلحة شخصية بدلًا من مصلحة عامة، فإن إحالة من أكمل مدة التقاعد المنصوص عليها في قانون التقاعد المدني، الذي يُقال بشأنه إنه تمّ للمصلحة العامة، تصبح في الحقيقة تشريعًا يتعارض مع روح الدستور؛ إذ استُبدلت المصلحة العامة بمصلحة شخصية لفردٍ أو لفئة، وبهذا انحرف المشرّع عمّا يأمر به روح الدستور، لتكون الفقرة (أ) من المادة 15 من قانون استقلال القضاء غير دستورية لانطوائها على انحرافٍ في استعمال السلطة التشريعية.
أما ما يخص الفقرة (ج) من المادة 15، التي نصّت على إحالة أيّ قاضٍ على التقاعد إذا أمضى مدة خدمة لا تقل عن 20 سنة، وعلى الاستيداع إذا أمضى مدة لا تقل عن 15 سنة، وإنهاء خدمته إذا لم يكن مستكملًا المدد المذكورة للإحالة على التقاعد أو الاستيداع،
وحيث إن القاضي هو الذي يعبِّر عنه المشرّع بصفةٍ قطعيةٍ ووضوحٍ تام، وحيث إن الوظيفة القضائية/عمل القاضي، كما يقول فقه القانون، «وظيفة عليا أو فوقية»، مما يعني – بمفهوم المخالفة – أنها ليست مجرد وظيفة عامة بالمفهوم التقليدي (يُراجع الأستاذ أحمد حشيش – نظرية وظيفة القضاء).
وحيث إنه يوجد في العالم اليوم نظامان أساسيان للمجتمع الوظيفي يختلفان اختلافًا جوهريًّا:
الأول يقوم على أساس الوظيفة والموظف معًا، وتُعتبر فيه الوظيفة مهنة يلتحق بها الموظف في سن مبكرة بنية البقاء فيها إلى أن يبلغ السن المحدد لانتهاء خدمته.
أما الثاني فيقوم على أساس مبدأ توقيت الوظيفة، وبالتالي فإن الوظيفة، لا الموظف، هي الأساس الذي يقوم عليه.
وبالعودة إلى النظام القانوني الأردني – نظام الخدمة القضائية، ونظام الخدمة المدنية، وقانون التقاعد – كما يُراجع ما يتعلق بالقاضي تحت التجربة، والقاضي المتدرّج، وما يتعلق بالترقية، نجده قد أقام سياسته في هذا المجال على أساس الوظيفة القضائية ومن يشغل هذه الوظيفة، أي القاضي.
ولأنه لم يلتفت إلى الفرق الواضح بين «انتهاء الخدمة» و«إنهاء الخدمة» التي تضمنتها المواد 6 و25 و30 وما بعدها و42/ج و د من قانون استقلال القضاء، والمادة 166 من نظام الخدمة المدنية، ولأنه لم يلتفت في مجال التقاعد إلى الفرق بين «الحق في أن يتقاعد بطلب منه» وبين «أن يُحال على التقاعد رغمًا عنه» (تُراجع المادتان 12 و13 من قانون التقاعد المدني)، كما يُراجع نظام الخدمة القضائية ونظام الخدمة المدنية اللذان يكفلان الحق في التعيين في الوظائف العامة، فإن التساؤل يثور: أين تُوطَّن مفردات الفقرة (ج) من المادة 15، وذلك عندما تتم قبل نهاية مدة الخدمة، أي قبل سن السبعين أو الثامنة والستين؟ هل تُوطَّن في دائرة إنهاء الخدمة رغمًا عنه، وبالتالي تأخذ صفة العقوبة، أم تُدمج مع المادة 25 من قانون استقلال القضاء ويُتعامل معها كأنها توأم للاستغناء عن الخدمة، أم تُوطَّن في الدائرة الحكمية، أم تُوطَّن في دائرة الإرادة الحرة للقاضي؟
سنسارع إلى القول بأن الفقرة (ج) من المادة 15 حسمت الأمر، وأدخلت مفرداتها جميعًا في دائرة «إنهاء الخدمة رغمًا أو غصبًا عن إرادة القاضي»، لا لأنه ارتكب ذنبًا أو وقع منه خطأ يستوجب مساءلته تأديبيًا، ولكن لأنه استكمل المدة اللازمة للتقاعد أو للاستيداع أو لأنه لم يستكملها. وحيث إن قطع الصلة الوظيفية، وفقًا لما تقدم، لا يتفق والسياسة التي اعتمدها وتميز بها النظام القانوني الأردني القائم على «أساس الوظيفة والموظف» واعتبار الوظيفة مهنة دائمة وليست مؤقتة، فإن ما تضمنته الفقرة (ج) لا ينسجم مع نص المواد 22 و27 و97 و128، وبالتالي فهي غير دستورية لعيب مخالفة النص الدستوري ولعيب الانحراف التشريعي.
أما ما يخص الفقرة (هـ) من المادة 15، التي تنص على أنه «لا يجوز لعضو المجلس حضور اجتماع المجلس الذي يبحث موضوع إحالته على التقاعد أو الاستيداع أو إنهاء خدمته»، وحيث إن هذا النص يترجم بشكل واضح سلطة المجلس القضائي المطلقة، وحيث إن المادة 128 تترجم مبدأ مقابلًا أهم يلزم التقيد به، وهو «مبدأ المشروعية»، حيث قلبت سلطة المجلس القضائي من مطلقة إلى مقيَّدة في نطاق المشروعية؛ وإذا أضفنا ما تأمر به المادتان 7 و17 من الدستور، فإننا نخلص إلى أن الفقرة (هـ) لا تنسجم مع ما يأمر به الدستور والقوانين المكمِّلة.
ثانيًا) في قانون القضاء الإداري رقم 47 لسنة 2014
ظلّت الرقابة القضائية على أعمال الإدارة في الأردن قاصرة، ولم تبلغ المدى الذي بلغته في العديد من الدول، ولما فكرنا في عام 2011 في تغيير الحال، كان السؤال: كيف كان يجب أن تُنظَّم هذه الرقابة؟ وكانت الإجابة من أصحاب الذوات أعضاء لجنة تعديل الدستور عام 2011 سريعة: أن نتجه إلى «نظام القضاء المزدوج».
ذلك لأن أيّ فرعٍ من فروع القانون، كما يقول الفقه القانوني، لا يمكن أن ينمو إلا إذا كان له تقنين مستقل؛ فإذا لم يكن له مثل هذا التقنين – كالقانون الإداري، وبخاصة نظرياته الكبرى – فلا بد من أن تسهر على تطبيقه محاكم خاصة أو قضاء متخصص يراقب أعمال الإدارة ويكون له الولاية العامة في المنازعات الإدارية، لا أن تجعل منه «قاضيًا إداريًا ذا اختصاصات محددة».
وقد تطلّب هذا الوضع أن يصدر قانون جديد ينظم هذا القضاء، فصدر القانون رقم 47 لسنة 2014، وبهذا الصدور حقق الشرعية الدستورية ووضع المادة 100 من الدستور موضع التنفيذ، إذ إن الدستور دعا المشرّع في 1/10/2011 إلى أن يصدر قانونًا خاصًا يعيّن به أنواع المحاكم ودرجاتها وأقسامها وكيفية إدارتها، على أن ينص هذا القانون على إنشاء قضاء إداري على درجتين.
ونضيف أن هذا الدور وفّر ميزة الاستقلال للقضاء الإداري عن المحاكم النظامية، فأرسى بذلك الأساس لنظام ازدواج القضاء، الذي يتميّز بأن تكون جهة القضاء الإداري مستقلة عن جهة القضاء العادي أو النظامي، ولكل جهة محاكمها على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وعلى رأس كل جهة محكمة عليا. ويحقق القانون ميزةً أخرى، هي ميزة التخصص، حيث تختلف القواعد والمبادئ القانونية التي تُطبَّق على كل نوع منها، وضرورة وجود قضاةٍ متخصصين أُعدّوا إعدادًا خاصًّا ليبتدعوا الحلول ويرسوا المبادئ التي تحقق التوازن بين المصلحة العامة وحقوق الأفراد.
هذا، وعلى العكس مما يراه أستاذنا الكبير أبو زيد فهمي، وهو يتحدث عن مجلس الدولة الفرنسي والمصري من أن تحديد الجهة التي يتبعها المجلس أو يُلحَق بها أمرٌ محدود الأهمية إلى أبعد مدى، ولن يغيّر كثيرًا أو قليلًا في كيانه وكيان أعضائه واستقلال رجاله، سواء أكان هيئة مستقلة تُلحَق برئاسة الجمهورية أم هيئة مستقلة تُلحَق بوزير العدل؛ إذ إن الذي يهم – كما يقول أستاذنا الكبير – هو مدى الضمانات المقررة للقضاة في نواحي حياتهم الوظيفية. فإذا وضحت هذه الضمانات وقويت، سواء في التعيين أو الترقية أو النقل أو التأديب أو العزل، أصبحت تبعية المجلس لهذا أو ذاك أمرًا غير ذي أهمية على الإطلاق.
وعلى خلاف رأي أستاذنا الكبير مصطفى أبو زيد فهمي، الذي لا يرى أية أهمية بين إلحاق مجلس الدولة المصري برئاسة الجمهورية أو بوزارة العدل، فإن الرأي الذي ذهب إليه الفقيه الدكتور عثمان خليل عثمان يقول: إن إلحاق مجلس الدولة المصري برئاسة مجلس الوزراء ثم برئاسة الجمهورية يتضمن توكيدًا لاستقلال المجلس، كما يميّزه بروحه وتقاليده المغايرة لروح وتقاليد المحاكم العادية الملحقة بوزارة العدل، إذ يُخشى من وحدة التبعية أن يسهل المرور بين الجهتين على نحو قد يفقد مجلس الدولة طابعه الخاص الذي يجب أن يختلف عن طابع المحاكم العادية، والذي يُعتبر من أهم مبرراته. كما أن مجلس الدولة، باعتباره جهة الإفتاء والصياغة لجميع الوزارات، يجب منطقيًا أن يُلحَق برئاسة هذه الوزارات جميعًا لا بإحداها، فضلًا عمّا في تبعية المجلس لرئاسة الوزراء ثم لرئاسة الجمهورية الآن من أثر نفسي يرفع اعتباره وقيمة فتاواه في نظر الوزارات والمصالح، ويُروِّض هذه وتلك على قبول تدخله ورقابته، كما أن تبعية المجلس للرئاسة توفّر كثيرًا من صور تدخل الوزير ومكاتب الوزارة، التي يُستبعَد حصولها عندما يكون الاختصاص موكولًا إلى رئيس مجلس الوزراء أو رئيس الجمهورية.
فإننا نعتقد أن ما اعتمده قانون القضاء الإداري الأردني رقم 47 لسنة 2014، من عدم اعتبار المحاكم الإدارية جزءًا من السلطة التنفيذية، هو أمر كبير الأهمية، وعندما يعمل الأردن على تقنين القانون الإداري سيتفوّق حتمًا على ما عداه من النظم القانونية ليكون الرائد في هذا المجال.
ونضيف أن القانون سالف الذكر حقق الكثير من التقدّم؛ فعلى سبيل المثال عالج فضّ الخلاف على الاختصاص، وحرص على تأكيد ضمانات استقلال القضاء... ولكنه، من الناحية الثانية، عاد بنا إلى الوراء عندما نصّ في المادة الخامسة/فقرة (د) على أن «لا تختص المحكمة الإدارية بالنظر في الطلبات المتعلقة بأعمال السيادة»، وهو نص لا ينسجم مع ما أمرت به المواد 24 و97 وما بعدها من الدستور.
ولأننا نطمح أن نصل إلى ما وصلت إليه الدول المتقدمة في هذا المجال، خصوصًا وأن رسالة رجال القانون الإداري خدمة الفقه والقضاء وخدمة الإدارة، نقول: إن الرقابة القضائية على أعمال الإدارة ما زالت في الأردن باتجاه «قاضٍ إداري ذي اختصاصات محدودة»، لا «قاضي الولاية العامة» بنظر المنازعات الإدارية، حيث ظلّت هذه الولاية للمحاكم النظامية وتُطبَّق عليها أحكام القانون المدني (تُراجع المادتان 102 و103 من الدستور)، وبهذا لم تتحقق وحدة القانون الذي يُطبَّق على المنازعات الإدارية، وهو القانون الإداري.
هذا، ولأننا نحترم سياسة المشرّع الأردني وسنّته في التدرّج، فإننا ننتظر أن يذهب المشرّع إلى توسيع دائرة اختصاص القضاء الإداري وتعميمها، لينتهي الأمر إلى قصر الاختصاص على جهة القضاء الإداري.
نضيف أنه على الرغم من أهمية هذه النقلة النوعية في مجال حكم القانون، إلا أنه يُؤخذ على قانون القضاء الإداري ما يلي:
أولًا: خلوّه من النص على إنشاء «مكتب فني»، أو كما يُطلق عليه في الدول الأخرى «هيئة مفوضي الدولة»، حيث يقوم على أغراض شتى، من بينها:
• يجرد المنازعات الإدارية من الخصومات الفردية،
• ويعاون المحكمة الإدارية في تحضير القضايا وتهيئتها للمرافعة،
• ويساعد على تمحيص القضايا بآراء لصالح القانون وحده.
ولهذا قيل إن القضاء الإداري في فرنسا، وهو القضاء النموذجي الذي يُحتذى، لم يبلغ مبلغه من الرقي ورفعة المستوى إلا بفضل الجهود الموفقة التي يبذلها مفوضو الدولة، والبحوث الفنية الرائعة التي يتقدمون بها. ويقول أستاذنا الكبير الدكتور مصطفى أبو زيد فهمي: «إن روح المفوض، من حيث الحيدة، تتطابق مع روح القاضي»، ويضيف أن نجاح نظام مفوضي الدولة لدى مجلس الدولة الفرنسي les commissaires du gouvernement دفع المشرّع المصري إلى نقله، باعتماده والأخذ به، حيث قننته المادة السادسة من قانون مجلس الدولة.
وتختص هيئة المفوضين بما يلي:
أ) تحضير الدعوى وتهيئتها للمرافعة، وذلك باستكمال الناقص من البيانات والأوراق، وإجراء تحقيق الوقائع الضرورية في الدعوى، وتكليف ذوي الشأن بتقديم مذكرات أو مستندات تكميلية إذا رأى المفوض محلًا لذلك.
ب) الفصل في طلبات الإعفاء من الرسوم القضائية.
ج) رغبةً في التخفيف عن القضاة، يجوز للمفوض أن يعرض على طرفي النزاع تسوية النزاع على أساس الثابت من المبادئ التي قررتها المحكمة العليا.
د) إعداد تقرير عن الدعوى يشمل الوقائع والمسائل القانونية التي يثيرها النزاع، ويمحّص القضية تمحيصًا يضيء ما أظلم من جوانبها، ثم يضع في النهاية رأيًا مُسببًا لصالح القانون وحده.
ثانيًا: خلوّه من النص على المكوّن الآخر المهم للقسم القضائي، وهو «القسم الاستشاري للفتوى والتشريع». فالقضاء الإداري المقارن هو مستشار الدولة في الفتوى والتشريع، وقاضي الدولة في المنازعات الإدارية. وبهذا الخلوّ، كيف سيقوم القضاء الإداري بإرساء قواعد القانون العام والإسهام في بناء النظام القانوني الأردني، وبخاصة في مجال التشريع؟ وكيف سيكون وثيق الصلة بالحكومة والمؤسسات والهيئات التابعة لها؟ وكيف سيتم التعاون معها حتى تسير على هدي القانون؟
وهنا لا بد من وقفة لنقول إنه يجب إعادة تكوين القضاء الإداري بحيث يشمل، إضافة إلى القسم القضائي بفرعيه «المحكمة الإدارية» و«المحكمة الإدارية العليا»، قسمًا آخر «للْفَتْوى والتشريع»، ذلك لأن موطنه الحقيقي هو القضاء الإداري كقسم واحد؛ لأن من يختص بالفتوى يجب أن يختص بالصياغة. فالفتوى ليؤخذ رأيه كمستشار للإدارة العامة حول أي مشكلة لديها، بما في ذلك تفسير القانون، والتشريع ليؤخذ رأيه في جميع مشروعات القوانين التي تقدمها الحكومة، وكذلك الأنظمة بمختلف أنواعها.
وبذلك يحل هذا القسم محل «الديوان الخاص لتفسير القوانين» المنصوص عليه في المادة 123 من الدستور، كما سيحل محل «ديوان التشريع والرأي»، خصوصًا وأن هناك «شبهة دستورية» حول استمرار هذا الديوان، لعدم انسجام نظامه رقم 1 لسنة 1993 مع نص المادة 100 من الدستور.