قبل أيام انتهت الدّورة الرّابعة والأربعون منْ معرض الشّارقة الدّوليّ للكتاب، المعرض الذي تنظّمه هيئة الشّارقة للكتاب ويتمّ افتتاحه كلّ عام برعاية سموّ الشّيخ سلطان بن محمّد القاسميّ عضو المجلس الأعلى لاتّحاد الإمارات، حاكم الشّارقة الذي أكّد في هذه الدّورة: " كرّست حياتي للثّقافة".
في قاعاتِه السّبع حضارةٌ إنسانيَّةٌ تمتدُّ قرونًا، وثمَّة دراساتٌ وتنبّؤاتٌ للمستقبلِ ربَّما تمتدُّ قرونًا أخرى لم تأتِ بعد.
في ردهاتِه صغارٌ وكبارٌ، شبابٌ وشيبةٌ، عربٌ وأجانبُ يمشون ويضحكون ويأكلون ويشربون ويحملون أكياسًا ثقيلةً وخفيفةً... الطّعامُ أيضًا، أطباقٌ من بلادٍ شتّى كانتْ رفيقًا للكتاب.
في القاعاتِ كتبٌ للأطفالِ وألعابٌ، وكتبٌ في الآدابِ والعلومِ في كافةِ حقولِ المعارفِ الإنسانيَّةِ، حينَها يصبحُ الكتابُ أمَّةً، بلْ حياةً تغنيكَ عن الحياةِ خارجَ أسوارِ هذه القاعاتِ.
حلّت اليونان ضيفًا على هذه الدّورة؛ لتضيء على الثّقافة الأسطوريّة حين كان زوّار المعرض على موعد مع الملاحم، ومن الأدباء اختير الأديب محمد السّلماوي شخصيّة العام الثّقافيّة تقديرًا لمسيرته لأكثرَ منْ خمسة عقود في مجال المسرح والرّواية والعمل الثّقافي العربيّ.
ثمَّةَ فعاليّات خاصَّةٌ بالأطفالِ تشتملُ على ألعابٍ وقاعاتٍ للتَّدريبِ على القراءةِ والتَّفكيرِ الإبداعيِّ، وثمَّة فعاليّاتٌ بالعربيَّةِ ولغات أخرى تحكي آمالَ الصِّغارِ وأحلامِهم، وكان من أجمل الفعاليّات هذا العام (مغامرات المدينة الصّغيرة التي خصّصت للأطفال دون التّاسعة؛ لتأخذهم في رحلة تعليميّة تمرّ بين التّعليم والمرح في عالم تفاعليّ نابض بالخيال والاكتشاف حين ارتدى الأطفال أزياء المهن من هندسة وطبخ ورجال مرور.
كتابان للطفولة فازا عن دور نشر أردنيّة ضمن الجائزة الدّوليّة لأدب الطّفل العربيّ في دورته السّابعة عشرة.
تؤكّد الفعاليّات أنّ المعرفة عمل جماعيّ وأنّ النّهضة بالكتاب لا تتوقّف عند قراءته وإنّما تمتدّ لدعم كلّ العاملين في صناعته.
وثمّة مخطوطات نادرة تلقي الضّوء على رحلة الإرث الإنسانيّ المشترك في جناح بيت الحكمة، وندوات في الأدب والشّعر والنّقد والرّواية لتقول: إنّ الأدب قادر على كسر الصّورة النّمطية المغلوطة عن العرب وأنّ التّرجمة قنطرة بين الشّعوب وأن الأدب جسر يصل بين القلوب قبل العقول، وأنّ الهويّة الواثقة تكون أكثر انفتاحًا على الآخر.
المعرض جاء ليؤكدَ أنّ الكتاب فعل متواصل من الإصغاء والتّلقي، وأنّ الخيال لغة وصال مع الكون.
أما المشاهير فكان لهم مساحة واسعة في دورة هذا العام حيث استضاف المعرض (ويل سميث) في جلسة بعنوان (قوّة السّرد القصصيّ) كاشفًا عن فلسفته في التّمثيل والحياة معلنا أنّ كتابة سيرته جعلته يعرف نفسه بصدق.
فلسطين كان لها حضور في دورة هذا العام - كما في كلّ عام - حين استقبلت الأديبة إبتسام بركات خبر فوزها بالجائزة الدّوليّة لكتاب الطّفل عنْ كتابها (بوّابة القدس الخفيّة) بقولها: أكتب لأقاوم.
أمّا شعار المعرض هذا العام فكان (بينك وبين الكتاب)، يمثل هذا الشّعار دعوة لتعزيز العلاقة مع الكتب والاحتفاء باللحظات التي تمنحنا القراءة منها رحلة للتعلّم بطريقة لا تشبه أحدًا.
وكان ذلك وعدًا نبيلًا من الشّارقة بأنّ مزيدًا من الأطفال سيحملون الكتب بين أيديهم...
ما الذي جعلَ دورَ الكتابِ يتراجعُ في أيامِنا هذه رغمَ انتشارِ الطِّباعةِ، وتزايدِ دورِ النَّشرِ؟
كيفَ يمكنُ أنْ نعيدَ للكتابِ المكانةَ التي كانتْ له قبل ثلاثين عامًا أو يزيدُ؟
"عندما تصبحُ المكتبةُ في البيتِ ضرورةً كالطّاولةِ والسَّريرِ والكرسيِّ والمطبخِ، عندئذٍ يمكنُ القولُ بأنَّنا أصبحْنا قومًا متحضِّرين"، هكذا قال (ميخائيل نعيمة) يومًا، ولكنْ لا بدَّ من التّقنين ومراقبةِ النَّشءِ حينَ يقبلون على مواقع التّواصل، وعلى الأجهزةِ الإلكترونيَّةِ عمومًا؛ لأنّ الإدمانَ عليها كانَ منْ نتائِجه غيابُ الدفْءِ في العلاقاتِ الاجتماعيَّةِ، وتراجعُ الملكاتِ العقليَّةَ كالقدرةِ على إجراءِ العمليّاتِ الحسابيَّةِ مثلًا...
الشَّبكةُ العنكبوتيَّةُ بكلِّ ما تحويه لمْ تكنْ بديلًا أمينا للكتاب؛ فثمَّةَ رائحةٌ للورقِ وحضورٌ للكلمةِ المطبوعةِ تجعلُ الحديثَ عن انتهاءِ عهدِ الكتابِ الورقيِّ أقربَ إلى الحلمِ منه إلى الحقيقةِ.
حياةٌ بكلِّ تفاصيلِها تلكَ التي عشتُها في الشّارقة التي احتفلتْ بمرور مئة عام على تأسيس أوّل مكتبة فيها.