الجامعة الأردنية الافتراضية .. نحو ثورة تعليمية بقيادة رؤية ولي العهد
أ.د. أحمد منصور الخصاونة
29-11-2025 01:48 PM
في زمن تتوالد فيه التحولات الرقمية كما تتوالد النجوم في فضاء المعرفة، ويغدو فيه الذكاء الاصطناعي القوة المحرّكة لصناعة الغد، لم يعد التعليم العالي قادرًا على الارتهان للقوالب التقليدية أو للحدود الجغرافية التي ضاقت عن استيعاب طموحات الإنسان. لقد أصبح من المتعذّر الاستمرار في نموذج جامعي يستنزف الموارد ويقيد حركة التعلم، في عالم باتت فيه المعرفة متاحة بضغطة زر، ومنصّات التعليم تتجاوز المسافات وتلغي الحواجز وتضع الطالب في قلب التجربة التعليمية أينما كان. ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة لإنشاء جامعة افتراضية أردنية، تكون مشروعًا وطنيًا يتماهى مع روح العصر، ويتسق مع رؤية الدولة الأردنية واهتمامات سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، الذي جعل من التحول الرقمي وتمكين شباب الوطن من علوم المستقبل محورًا رئيسًا في خطاباته ومبادراته.
إن الثورة الرقمية لم تعد حدثًا عابرًا، بل أصبحت عالمًا جديدًا قائمًا بذاته، يعيد تشكيل الاقتصاد، والعلوم، والإدارة، وحتى طريقة التفكير الإنساني. ومع صعود الذكاء الاصطناعي بوصفه العقل الموازي الذي يضاعف قدرات الإنسان، بات من البدهي أن يعاد النظر في مفهوم الجامعة نفسها، لا من حيث شكلها العمراني، بل من حيث رسالتها وغايتها ووسائلها. فالجامعات الافتراضية في العالم المتقدم لم تعد خيارًا تجريبيًا، بل تحوّلت إلى مؤسسات راسخة تمنح الدرجات العلمية، وتعتمد على منصّات ذكية، وتحاكي المختبرات الحقيقية بتقنيات الواقع الممتد، وتقدّم للطالب تعليمًا أكثر مرونة وعمقًا وفاعلية.
وعلى الرغم من أنّ قوانين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وكذلك الاطار الوطني للمؤهلات وهيئة الاعتماد وضمان الجودة ، قد منحت الجامعات صلاحيات واسعة في تصميم البرامج ومنح الدرجات العلمية، ومن السهل تعديلة ليتطرّق بشكل واضح إلى نموذج الجامعة الافتراضية ككيان مستقل. وهذا الفراغ التشريعي لا يشكّل عائقًا بقدر ما يشكّل فرصة تاريخية لإطلاق مشروع وطني جديد، يضع الأردن في صدارة الدول العربية التي تُحوّل تعليمها العالي إلى نموذج رقمي حديث. فالأردن اليوم يمتلك من الخبرات الأكاديمية، والبنية السيبرانية، والكفاءات البشرية ما يؤهّله لأن يقود ثورة التعليم الافتراضي في الإقليم. إنّ إنشاء جامعة افتراضية ليس مجرّد استجابة لمتطلبات العصر، بل هو استثمار في المستقبل ورهان على قدرات الشباب الأردني الذي أثبت في كل الحقول أنّه قادر على الإنجاز حين تتوفر له الأدوات المناسبة.
ومن أهم ما يميز الجامعة الافتراضية قدرتها على توسيع فرص الوصول إلى التعليم العالي، بحيث يصبح التعليم متاحًا لمن لم تسمح لهم ظروف المكان أو العمل أو الكلفة بالتحاقهم بالجامعات التقليدية. فالطالب الذي يعيش في أقصى البادية الشمالية، أو في الريف الجنوبي، أو العامل الذي يقضي يومه بين المناوبات، أو الأردني المغترب في الخليج أو أوروبا، يستطيع جميعهم أن يواصلوا تعليمهم دون أن يغادروا أماكنهم. ومع هذا الانفتاح تتعاظم القدرة على استقطاب الطلبة من شتى أنحاء العالم، ليصبح الأردن مركزًا إقليميًا للتعليم الرقمي، وتتحوّل الجامعة الافتراضية إلى جسر يربط المعرفة الأردنية بالعالم، ويُعيد المكانة العلمية للأردن بوصفه بلدًا ينتج المعرفة ولا يكتفي باستهلاكها.
وإلى جانب التوسع في الوصول، تأتي ميزة خفض كلفة التعليم بوصفها ركيزة رئيسة لهذا التحول. فالجامعات التقليدية ترهق ميزانياتها ببناء القاعات وتجديد البنى التحتية وصيانة المرافق، بينما يتيح النموذج الافتراضي إعادة توجيه الموارد نحو تطوير المحتوى، وتعزيز البحث العلمي، وتحسين المنصات الرقمية. وهذه التحولات لا تنعكس فقط على نفقات الجامعة، بل تمنح الطالب أيضًا فرصة للحصول على تعليم عالي الجودة بكلفة أقل بكثير، دون الحاجة إلى السكن الجامعي أو المواصلات أو النفقات الإضافية التي تشكّل عبئًا على الأسرة الأردنية.
وتتّسق هذه الرؤية انسجامًا كاملًا مع اهتمامات سمو ولي العهد، الذي جعل من الذكاء الاصطناعي، وريادة الأعمال التكنولوجية، وتحديث منظومة التعليم ركيزة استراتيجية لمستقبل الأردن. فسموه لا ينظر إلى التكنولوجيا بوصفها أدوات حديثة فحسب، بل يعتبرها لغة العصر ومحرك الاقتصاد الجديد، ونافذة عبور الشباب نحو المنافسة العالمية. وفي كل مناسبة يظهر جليًا أن الأمير الحسين يؤمن بأن الاقتصاد القادم اقتصاد رقمي معرفي، وأن الدول التي لا تستثمر في علوم المستقبل ستجد نفسها خارج معادلة التقدّم. أما الأردن، في رؤية سموه، فهو بلد قادر على التحول، يمتلك الطاقات الشابة، والعقول المتعطشة للابتكار، والإرادة السياسية التي تترجم الأحلام إلى مشاريع واقعية.
وتنعكس هذه الرؤية في المساحات التي يوليها سموه لقطاع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، حيث يعمل على دفع الجامعات إلى تبني مناهج جديدة، وتعزيز شراكاتها مع شركات التكنولوجيا العالمية، وتهيئة بيئة تعليمية تسمح للطالب بأن يتعلم بطريقة أكثر مرونة وعمقًا. ومن هنا تتجلى أهمية الجامعة الافتراضية، فهي ليست مجرد مشروع أكاديمي رقمي، بل هي نموذج يترجم الطموح الملكي–الولائي في أن يصبح الأردن مركزًا إقليميًا للمعرفة والتقنيات المتقدمة. إنها المؤسسة التي ستجعل تعليم الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والبرمجة، وريادة الأعمال التكنولوجية جزءًا من الحياة اليومية للطالب الأردني، وليست مساقات هامشية أو برامج متخصصة.
وفي مبادرات سمو ولي العهد، ولا سيما تلك التي تستهدف الشباب، تبرز ملامح رؤية واضحة تسعى إلى جعل الشباب قوة فاعلة لا قوة كامنة. ففي برامج التدريب المتقدم، واللقاءات التي تجمعه بالشباب في المحافظات، وفي رعايته المستمرة لفعاليات الابتكار والتكنولوجيا، يتجسد اقتناع راسخ بأن شباب الأردن قادرون على إبداع حلول للمستقبل، إذا ما مُنحوا الفرصة والمنصّة. ومن هنا تأتي الجامعة الافتراضية لتكمل هذه الصورة؛ فهي المنصّة الكبرى التي ستحتضن هذه الطاقات، وتفتح أمامها آفاقًا بلا حدود، وتمنح الطالب القدرة على التعلم وفق نموذج عالمي يزاوج بين الجودة والمرونة.
إن الجامعة الافتراضية ستكون، بهذا المعنى، تجسيدًا حيًا لرؤية سموه، ومحركًا أساسيًا لتحويل الشباب من مستهلكين للتكنولوجيا إلى مطوّرين لها، ومن باحثين عن فرص خارج الوطن إلى صانعين للفرص داخل الوطن. إنها تعيد تعريف العلاقة بين الطالب والمعرفة، وتمنح المتعلم القوة لاكتساب مهارات المستقبل دون عوائق المكان أو الزمان. وبذلك تصبح الجامعة الافتراضية ليس فقط مشروعًا تعليميًا، بل مشروعًا وطنيًا يعبر عن الثقة بالشباب، وعن إيمان القيادة بأن الأردن يستحق أن يكون في مقدمة الدول التي تبني مستقبلها بيدها، لا بيد غيرها، وأن قدر شباب هذا الوطن أن يكونوا شركاء في نهضة وطنهم، وروّادًا في صناعة الغد.
ويأخذ هذا المشروع الوطني أهمية خاصة حين يُنظر إليه ضمن أعمال “لجنة المستقبل” التي شكّلها جلالة الملك لتقديم تصوّرات طويلة الأمد حول مستقبل الأردن في مختلف القطاعات. فالتعليم العالي هو البوابة الكبرى للمستقبل، والجامعة الافتراضية هي النموذج الأكثر ملاءمة لتوجيه القطاعات كافة نحو التحول الرقمي. إن توصيات لجنة المستقبل تشدد على ضرورة الاستثمار في الإنسان، وتمكينه بالمهارات الرقمية، وتعزيز قدرته على التكيف مع التحولات العالمية، وكلها أهداف تتجسد في صلب فكرة الجامعة الافتراضية.
ومن هنا، فإن إنشاء الجامعة الافتراضية الأردنية لم يعد فكرة نظرية، بل ضرورة استراتيجية تتوافق مع رؤى الدولة وتوجّهاتها، وتنسجم مع طموحات ولي العهد، وتتقاطع مع توصيات لجنة المستقبل، وتستجيب لمتطلبات الثورة الرقمية. إنها خطوة لا تكتفي بتطوير نموذج التعليم، بل تعيد صياغة هوية الجامعة الأردنية بوصفها مؤسسة وطنية قادرة على بناء المستقبل، وتحويل الطاقات البشرية إلى قوة إنتاجية معرفية تسهم في رفعة الوطن وتقدّمه. وإذا ما جرى تبني هذا المشروع بروح المسؤولية والطموح، فإن الأردن سيجد نفسه، في غضون سنوات قليلة، في صدارة الدول التي سبقت إلى صناعة مستقبلها، بدل أن تنتظر أن يُصنع لها.